أثرُ اللسانيات الثقافية في كتاب سيبويه
أ.د. صباح علي السليمان
أُطلق مصطلح اللسانيات الثقافية لأول مرة من قبل رائد اللسانيات المعرفية رونالد لانغاكر، في حجة تؤكد على العلاقة بين المعرفة الثقافية والقواعد. ويشير هذا المصطلح إلى مجال بحث ناشئ متعدد التخصصات يستكشف العلاقة بين اللغة والمفهمة والثقافة. ومع ذلك فإنّ المصطلح بالمعنى الواسع يلتقط جميع الأبحاث اللغوية التي تبحث في العلاقة بين اللغة والثقافة. (ينظر: اللسانيات الثقافية، مقدمة تعريفيّة ،شاريفيان فارزاد ،ترجمة لـ بن بناجي عبد الناصر). وكان لعلماء العربية جهد كبير في اللسانيات الثقافية ، وهو نابع عن تفقههم في بقية العلوم ، ومن هؤلاء العلماء الكبار إمام النحاة سيبويه (ت180 هـ) فكان واسع الاطلاع فمن ذلك يربط النفس بالإيمان ، فأنّث الإيمان؛ إذ هو من النفس بها ، واحتج بقول ذي الرّمة :[ الطويل]
مَشَيْنَ كَمَا اهْتَزَّتْ رِيَاٌح تَسَفَّهَتْ *أَعالِيها مَرُّ الرّياِح النَّواسِمِ
“كأنّه قال: تسفَّهَتْها الرّياحُ ،وكأنه قال: ليس بآتِيَتَكَ مَنْهِيُّها وليس بمعروفةٍ ردُّها، حين كان من الخيل والخيل مؤنثة فأَنّث”.( كتابه: 1/65، وينظر: ديوان ذي الرمة 754 ، وعلاقة الإيمان بالنفس عند سيبويه أ. د. عبدالله أحمد جاد الكريم حسن) ، أمَّا نظرته الاجتماعية فقوله :”وذلك أنّ رجلا من إخوانك ومعرفتك لو أراد أنْ يخبرك عن نفسه أو عن غيره بأمر فقال: أنا عبد الله منطلقا، وهو زيد منطلقا كان مُحالاً؛ لأنه إنما أراد أنْ يخبرك بالانطلاق ولم يقل هو ولا أنا حتى استغنيت أنت عن التسمية، لأنّ هو وأنا علامتان للمضمَر، وإنما يضمِر إذا علم أنك عرفت من يعنى. إلا أنّ رجلا لو كان خلفَ حائط، أو في موضع تجهله فيه فقلت من أنت؟ فقال: أنا عبد الله منطلقا في حاجتك، كان حسنا” (الكتاب 2/80-81) ، وهو تعبير عن العملية التواصلية للحدث من متكلم ومخاطب وحال وهي نظرة اجتماعية أيضا (ينظر: اجتماعية اللغة في الدرس النحوي عند سيبويه عز الدين شحيمة ،ود. بو علام طهراوي ، مجلة أبوليوس ،2022).
ونرى نظرته الفلسفية واضحة في ترتيب الأبواب،والمنهج اللغوي العام ، والاستدراك بين الحين والآخر على المسألة اللغوية ، وقد عُدَّ هذا النظام من الاضطراب العام ، ولكن العلماء اللذين تبحروا في كتاب سيبويه أمثال د. تمام حسّان ، ود. خديجة الحديثي ، ود.عبد الرحمن الحاج صالح وجدوه سهلاً واضحاً في علوم العربية ، ناهيك عن النظرة الإحصائية في ترتيب الأبواب الصرفية من الأبنية، والإعلال ، والإبدال، والقياس اللغوي ، ودقته في ترتيب الأبواب النحوية كما في تقسيم الكلام إلى اسم وفعل وحرف ، وحركات الإعراب والبناء ثم الرفع والنصب والجزم ، وحروف الإعراب للأسماء المتمكنة ، والأفعال المضارعة لأسماء الفاعلين (ينظر: منهج سيبويه الرياضي في التبويب وعلاقته بمفهوم التكافؤ ، مريم قطّيع ،ومحمد بن حجر ،مجلة المحترف لعلوم الرياضة والعلوم الإنسانية والاجتماعية ) ، زيادة عن ترتيب الحروف ، وتحديد دقة مخرجها في زمن بعدت عنه المختبرات والمعامل الصوتية ، وما زال نظامه معمولاً إلى يومنا هذا .وكذلك أنّه حوي على العديد من المعارف ؛ إذ قال المبرد: «لم يعمل كتاب في علم من العلوم مثل كتاب سيبويه». وقال المازني: ما أخلو في كل زمن من أعجوبة في كتاب سيبويه، ولهذا سماه الناس (قرآن النحو). وقال الشيخ ابن تيمية : «ليس في العالم مثلُه، وفيه حكمةُ لسان العرب»(ينظر: أثر سيبويه في الدرس الأصولي ، د. عادل فتحي رياض) . والمتعمق في كتاب سيبويه يجد أنَّ سيبويه كان واسع الثقافة في العلوم ؛ فقد أخذ من كلّ علم نصيباً ، وفي الأخير اقتصر علمه على العربية، ورغم الدراسات القديمة والحديثة حول سيبويه إلّا أنَّه يبقى كتابه محط إعجاب وبحث في كلِّ زمان ومكان .