محتويات
الدولة العباسية الأولى
نسب العباسيون
- ينسب العباسيون إلى (العباس بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف) فهم والأمويون والعلويين أبناء عمومة .
- قام بأمر الدعوة العباسية (محمد بن علي بن عبد الله بن العباس) ويسكن بالحمية (بالأردن)؛ لبعدها عن الأنظار .
-و تم ذلك بأن(أبا هاشم عبد الله بن محمد بن علي بن أبي طالب ) زار هذا تلميذه وصديقة (محمد بن علي) في الحميمة ومرض عنده ولما شعر بدنو أجله أسر إليه بالدعوة في العراق وخراسان، وأن فيهما رجالا يأتمرون بأمره، وحيث أنه لا عقب له طلب أن يقوم بها ،وفي ولده من بعده ولأجل ذلك اتخذ (محمد بن علي) .
. السرية التامة في الدعوة والمكاتبات ،والتقليل منها حتى لا تجهض الدعوة في مهدها ،واتخذ موسم الحج لمقابلة كبار دعاته حتى لا ينكشف أمرهم فيعطيهم التعليمات الكاملة ويتسلم الأموال منهم، واستمر الأمر على هذا (ثمان وعشرين سنة) .الدعاة بمثابة التجار يدعون للرضا من آل محمد أو للرضا من آل البيت ،وطلب أن يكون اسمه مستورا إلا إذا توثق من الرجل وأخذت بيعته.
عدم استخدام القوة واللين واللطف وحسن الاتصال بالناس، والتجاوز عن المسيء؛ ليكثر أتباعها وحتى لا ينتهي أمرها في بدايتها؛ وانه محرم عليكم استخدام القوة حتى يؤذن لكم.
توفير الأموال اللازمة لخدمة الدعوة يدفعها أتباع الأمام.
اتخاذ خراسان مركزا يبث فيها أفكار دعوته ومنطلقا لتحقيق أهدافه ،ورفضه لأية أفكار بنقل نشاط الدعوة إلى بلاد الشام أو غيرها، واختار خراسان دون غيرها لأمور :
خصوبة تربتها وزراعتها ومعادنها .
بعدها عن مركز الخلافة وخلوها من أي قوات نظامية قد تستخدم للإجهاز على الدعوة.
ج- عدم وضوح الرؤية (الميل والهوى لدى أهل الإقليم). فهي بالنسبة للدعاة العباسيين بلد عذراء لم تتقسمها الأهواء –الجلد الظاهر-صدور سليمة -قلوب فارغة
د- وجود جاليات عربية كبيرة ومؤثرة وهي منتشرة في معظم مدن خراسان وقراها، وقد كان زياد بن أبي سفيان (والي العراق لمعاوية بن أبي سفيان) بعث بحوالي (50.000)عائلة عربية من أهل الكوفة والبصرة سنة 51هـ وأسكنهم في (مرو) وما حولها ،فأصبح أحفاد هؤلاء العرب هم حملة لواء الدعوة العباسية.
هـ – وجود فئات من السكان المحليين من الفرس شدتهم مبادئ الدعوة العباسية حيث المساواة بين العرب وغيرهم وهناك ( خمسة نقباء للدعوة من غير العرب من أصل (12) نقيبا.و(ستة قادة عسكريين) لجيش الثورة من غير العرب مقابل (14) قائد عسكريا من العرب.
أما سير الدعوة العباسيه
بدأ (محمد علي) سنة 100هـ فترة خلافة عمر بن عبد العزيز / في إرسال دعاته إلى العراق وخراسان وأخذوا يدعون إلى الرضا من آل محمد صلى الله عليه وسلم ،ونجحوا في ذلك رغم قتل بعضهم بين سنتي (107-119)هـ فترة خلافة هشام بن عبد الملك .
في سنة 125هـ توفي (محمد بن علي) بعدأن وضع مبادئ الدعوة وانتخب نقباءها ودعاتها، وبين عمل كل واحد منهم ،وتولى إبراهيم بن محمد بن علي أمر الدعوة بوصية من أبيه ،واستمر هذا دعم الدعوة وإرسال الدعاة ومقابلتهم في الحج في القترة التي زاد فيها النزاع بين أفراد البيت الأموي على منصب الخلافة، وأسفر عن قتل الخليفة الوليد بن يزيد بن عبد الملك سنة 126هـ
- في سنة 127هـ تولى مروان بن محمد الخلافة وسط ظروف صعبة -الخوارج والصراع القبلي(القيسيين واليمنيين )- مما ساعد الدعاة العباسيين وخاصة سليمان الخزاعي في نشر الدعوة في مدن خراسان وقراها ،فعهد (إبراهيم بن محمد )إلى أبي مسلم (عبد الرحمن بن مسلم )بقيادة عساكر الدعوة في خراسان .
- في سنة 129هـ أشهر أبو مسلم الخراساني أمر الدعوة العباسية من قرية (سفيذنج) ،بناء على أوامر تلقاها من إبراهيم بن محمد، فجاءته الجموع مرتدية السواد فعرفوا بالمسودة ؛نسبة إلى شعار العباسيين الأسود، وأوقدوا النيران ؛إشعارا لأهالي القرى والمدن الأخرى، وإيذانا بانطلاقة الدعوة. فسار أبو مسلم الخراساني بهذه الجموع باتجاه مرو( قاعدة إقليم خراسان.)
- فاضطر نصر بن سيار والي خراسان إلى طلب النجدة من يزيد الفزاري (والي العراق )ومن الخليفة (مروان بن محمد )شعرا ونثرا فرد علية الخليفة أن احسم الأمر بنفسك ،فقال نصر: أأيقاظ أمية أم نيام. فتمكنت قوات أبى مسلم الخراساني من دخول مرو، وتراجع نصر بن سيار إلى مدينة ساوه حيث توفي هناك 131هـ .
- قبض الخليفة مروان بن محمد سنة 132هـ على إبراهيم بن محمد بن علي ،حين عرف أمره وجيءبه من الحميمة، وأودعه في سجن حران ومات هناك.
- وهربا كلا من أخوي إبراهيم بن محمد بن علي .وهما :أبو العباس السفاح (عبد الله بن محمد بن علي )وأبو جعفر المنصور(عبد الله بن محمد بن علي)
إلى الكوفة فأخفاهما( أبوسلمة الخلال) كبير الدعاة هناك وظلوا فيها حتى دخول القوات العباسية فيها.
- ودخلت القوات العباسية قادمة من خراسان بقيادة-قحطبة الطائي- وهزمت يزيد الفزاري (والي العراق )عند الفلوجة -على شاطئ الفرات -فانسحب إلى واسط وبويع -لأبي العباس السفاح- كأول خليفة للعباسيين 13ربيع الثاني سنة 132هـ.
- وهاجمت القوات العباسية (بقيادة عم الخليفة أبو العباس السفاح ) عبد الله بن علي -الخليفة مروان بن محمد- وهزمته في معركة الزاب- على ضفاف نهر الزاب -فرع من نهر دجلة- قرب الموصل- فأخذ يتراجع الخليفة مروان بن محمد من الموصل-حران –حمص –دمشق –فلسطين –مصر وقتله جند صالح بن علي عم الخليفة بن العباس في قرية بوصير قرية قرب الجيزة .
- وحاصر العباسيون آخر جيوب المقاومة في- واسط -حيث (يزيد الفزاري) آخر ولاة الأمويين في العراق فاضطر إلى الاستسلام فقتلة أبو جعفر المنصور.
- وصودرت أملاك بني أمية وتعرضوا للمطاردة والتنكيل- مذبحة أبي فطرس- ويدعى اليوم (نهر العوجا )موضع قرب الرملة بفلسطين، وهرب جماعة إلى النوبة والحبشة وتبالة (46كيلو من بيشة )وبلاد المغرب ومنهم: عبد الرحمن بن معاوية بن هشام بن عبد الملك، ثم الأندلس عبد الرحمن الداخل صقر قريش.
بداية الدعوة العباسية
انتقلت الدعوة قبل ذلك من الهاشمية ( يعني أبي هاشم عبد الله بن محمد بن الحنفية) إلى العباسيين ( أي محمد بن علي بن عبد الله بن عباس ) وذلك عام 98هـ باعتبار إن الأول رأى في الثاني العلم والفهم والإدراك وحيث لا يوجد له خلف أوصى إليه بالأمر من بعده.
أسباب اختيار خراسان مكانا للدعوة العباسية
بزغت هذه الدعوة في الكوفة ثم انتقلت بعد زمن يسير إلى إقليم خراسان، وهو في الواقع أصلح مكان يمكن أن ينمو فيه هذا المولود الجديد وتتكامل قوته ،فلقد كانت خراسان بوضعها الجغرافي بعيدة عن المركز الرئيسي للخلافة وكانت تتجلى بها أكثر من غيرها روح السخط والعداء للدولة الأموية ؛وذلك لغلبة العنصر الأعجمي فيها على العنصر العربي.
أسباب اختيار خراسان مكانا للدعوة العباسية
وكان سكانها مزيج من قبائل وأمم مختلفة وهذه الأمم والقبائل على اختلافها تتفق في كراهية الأمويين وعدائهم، ففيها من اسلم رغبة في الإسلام وهؤلاء كانوا يحقدون على الأمويين لتجافيهم عن مبادئ الإسلام في بعض الأحيان، وفيها من أسلم طمعا في الامتيازات التي نادى فيها الإسلام وأهمها المساواة ،وهؤلاء خاب ظنهم حينما رأوا الأمويين لا يطبقون تلك المبادئ، وفيها من حافظ على دينه الأصلي وهؤلاء كانوا ينتهزون الفرصة لإنقاذ دينهم.
كذلك لا ننسى أن خراسان منطقة ذات أهمية كبرى بين الأقطار الإسلامية، فهي من الناحية الاقتصادية من أبرز المناطق، وكانت تقدم من الخراج ما يقدر بخراج مصر.
أسباب اختيار خراسان مكانا للدعوة العباسية
ولعل مما يوضح لنا صلاحية خراسان لتلك الدعوة الجديدة تلك الكلمة المنسوبة لـ ( محمد بن علي بن عبد الله بن عباس) والتي يرون أنه قالها لدعاته حين وجههم إلى خراسان. قال: أما الكوفة وسوادها فشيعة علي وولده. وأما البصرة وسوادها فعثمانية تدين بالكف ( أي الكف عن القتال وعدم الاشتراك فيه ) وتقول كن عبد الله المقتول ولا تكن عبد الله القاتل. وأما الجزيرة فحرورية مارقة وأعراب كاعلاج ومسلمون في أخلاق النصارى. وأما أهل الشام فليس يعرفون إلا آل سفيان وطاعة بني مروان وعداوة راسخة وجهلا متراكما. وأما مكة والمدينة فقد غلب عليهما أبو بكر وعمر. ولكن عليكم بخراسان فان هناك العدد الكثير والجلد الظاهر وهناك صدور سليمة وقلوب فارغة لم تتقسمها الأهواء ولم يتوزعها الدغل، وهم جند لهم أبدان وأجسام ومناكب وكواهل وهامات ولحى وشوارب. يشير إلى شجاعتهم وهكذا كانت خراسان حقلا خصيبا أفرخت فيه هذه الدعوة وانتشرت مبادئها حتى تشيعت النفوس وامتلأت بكراهية الأمويين وغدت البلاد كالهشيم المتراكم المتهيئ للاشتعال .
ادوار الدعوة العباسية
مرت الدعوة العباسية في طريقها بدورين متباينين وقد عرف الدور الأول بدور الدعوة السرية والدور الثاني بدور الدعوة الجهرية.
الدور الأول
فأما الدور الأول فقد استمر من مطلع القرن الثاني الهجري حتى سنة 127هـ .وقد كان الدعاة والذين اشتملوا على اثني عشر نقيبا ثمانية من العرب وأربعة من غير العرب في هذا الدور يجوبون خراسان في صورة تجار. ثم يقومون بنشر الدعوة من بيت إلى بيت ومن بلدة إلى أخرى في حيطة وحذر، وكان الولاة الأمويين إذا أحسوا بأحد الدعاة ولمسوا عن كثب خطره أسرعوا إليه ونكلوا به، ومن أشد هؤلاء الأمويين في هذا السبيل ( أسد بن عبد الله القسري ) فلقد ولي خراسان مرتين. الأولى من سنة 106 هـ
إلى سنة 109هـ والثانية من سنة 117هـ إلى 120هـ .وكان في فترتي ولايته مثالا لليقظة والحزم بل كان مثالا للقسوة والعنف ولكن الدعاة المؤمنين بحقهم لم يهدأ لهم بال فكانوا يستثيرون العصبية بين القبائل العربية ليقوى أمرهم على أنقاض هذه الفرقة. وكان زعماء الحميمة ( وهي من قرى شرق الأردن حاليا ) يكاتبون زعماء خراسان ويستجيب هؤلاء الخرسانيون للدعوة في غفلة من الولاة الأمويين ثم يحيطونها بالسرية حتى يجيء الوقت المناسب للظهور والإعجاب .وكانوا يتصلون بالعناصر المعادية للدولة الأموية وعلى رأسهم ( بكير بن ماهان وهو فارسي ) وكذلك (خداش).
وفي خلال هذا الدور توفي الإمام محمد بن علي بن عبد الله بن عباس بالحميمة سنة 125هـ. وكان قد عهد بأمر الدعوة قبل وفاته لابنه إبراهيم الذي تلقب (بإبراهيم الإمام)، وقد تغيرت الأوضاع في عهد إبراهيم فانتقلت الدعوة من السرية إلى الجهرية .ومن الدعاية والكلام إلى العمل وامتشاق الحسام.
الدور الثاني
أما الدور الثاني فقد بدأ منذ سنة 127هـ حينما اتخذت الدعوة طريقا ايجابيا .وانتقلت إلى دور الكفاح المدجج بالسلاح. وقد تولى القيادة في هذا الدور العملي رجل من دهاة السياسة وعباقرة الحروب وهو (أبو مسلم الخراساني)وقد تجمعت مع هذا القائد جموع المستجيبين للدعوة الجديدة فأهاب بهم إلى الكفاح والعمل وخاطبهم قائلا : ( أشعروا قلوبكم الجرأة فإنها من أسباب الظفر. وأكثروا ذكر الضغائن فإنها تبعت على الإقدام .والزموا الطاعة فإنها حصن المحارب ) ثم عقد لقواده الألوية وهو يتلو قوله تعالى 1) أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا وان الله على نصرهم لقدير وحين أحرز عدة انتصارات خاف ( نصر بن سيار) عامل الدولة الأموية في خراسان .فكتب إلى الخليفة (مروان بن محمد) يعلمه حال أبي مسلم وخروجه وكثرة أتباعه وأنه يدعو إلى إبراهيم بن محمد ). وختم كتابه بتلك الأبيات المشهورة
أرى تحت الرماد وميض جمر ويـوشك أن يكون له ضـرام
فإنّ الـنار بـالعود بـن تـذكى وإن الحرب ّمبدؤُهُا كــــلام
فإن لم يـطفـها عقلاء قوم يكون وقودها جثـــث وهام
أقول من التعجب ليت شعـري أأيقاظ أميّة أم نيــــــام
فإن يك أصبحوا وثووا نـيـاما فـقـل قـوموا فـقد حان القيام
فلما وصل كتابه إلى (مروان بن محمد) كتب إلى عامله (بالبلقاء) يأمره بأن يسير إلى الحميمة فيأخذ (إبراهيم بن محمد) فيشده وثاقا ويرسل به إليه .فأتى بإبراهيم إلى (مروان بن محمد) فلما دخل عليه قال: ما هذه الجموع التي خرجت بخراسان تطلب لك الخلافة؟ قال له إبراهيم: مالي بشيء من ذلك علم فان كنت إنما تريد التجني علينا فدونك وما تريد. ثم بسط لسانه على مروان فأمر به فحبس ثم قتل بعد زمن يسير. وكان إبراهيم بن محمد قد أوصى قبل وفاته أبا مسلم الخراساني فقال له ( وان استطعت ألا تدع بخراسان لسانا عربيا فافعل)
ولما قتل (إبراهيم بن محمد بن علي) خاف أخواه (أبو جعفر وأبو العباس) على نفسيهما فخرجا
من الحميمة هاربين نحو العراق ولما بلغ (أبا مسلم الخراساني) قتل (إبراهيم بن محمد وهروب إخوته إلى العراق واستخفاؤهما بالكوفة عند (أبي سلمة الخلال) أحد أنصار هذه الدعوة سار من خراسان حتى قدم الكوفة ودخل عليهما فعزاهما بأخيهما (إبراهيم بن محمد علي) الملقب بالإمام ثم قال لأبي العباس مد يدك لأبايعك فمد يده فبايعه … وقد أوصاه أبو العباس ألا يدع في خراسان عربيا لايدخل في أمره إلا ضرب عنقه.
وكان نصر بن سيار عامل الأمويين في خراسان يتابع تطور هذه الثورة من يوم لآخر، فيطلب الغوث والنجدة من الخليفة الأموي مروان بن محمد وأعوانه في الولايات الأخرى، ولكنهم كانوا في شغل بأنفسهم عن غيرهم فلم يستجيبوا له، وأما أهالي خراسان من السكان الأصليين فكانوا يتسابقون إلى تأييد أبو مسلم الخراساني ونصرته؛ لأنه منهم ولأن غايته تتفق مع أغراضهم .ولقد بلغ عددهم نحو مئة ألف رجل
وكان من الطبيعي حينئذ أن ينهزم نصر بن سيار أمام قوة أبي مسلم الخراساني وعلى الأخص بعد أن فرق أبو مسلم كلمة العرب وجعل بأسهم بينهم شديد. وقد تراجع نصر بن سيار أمام تلك القوة الرهيبة حتى مات طريدا شريدا في مدينة ساوة سنة 131هـ. وأما أبو مسلم الخراساني وأعوانه فقد سقطت المدن الخراسانية في أيديهم مدينة بعد الأخرى ،ثم سارت الجيوش والفرق في خراسان تغزو وتنتصر حتى أخضعت بلاد العراق حيث بويع أبو العباس السفاح بالخلافة في ربيع الأول سنة 132هـ.
أبو العباس السفاح
هو أبو العباس عبد الله بن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس، ولد بالحميمة سنة 104هـ، بويع بالخلافة ربيع الأول سنة 132هـ، توفي بمدينة الانبار ذي الحجة سنة 136هـ.
الأحوال الداخلية في عهده
لم تكن هزيمة مروان بن محمد وقتله منتهى متاعب العباسيين فانه كان لا يزال في الأمة العربية قواد ضلعهم مع بني أمية .ولا يزال عندهم شيء من القوة. فكانوا يثورون إما خوفا على أنفسهم من بني العباس الذين اظهروا قسوة شديدة في معاملة مغلوبيهم ،وإما طمعا في إعادة تلك الدولة العربية التي كان لهم منها نصيب وافر. فقضى أبو العباس أكثر حياته في إخماد تلك الثورات التي كانت كثيرة ؛لا سيما في الشام والجزيرة ،وقد كانت حياته مفعمة بحوادث القسوة مع بقايا بني أمية ومع غيرهم من أولياء الدولة الذين كان لهم الأثر المحمود في إحيائها .
فأما عن أبي العباس السفاح فقد روى أبو الفرج الاصبهاني في كتابه الأغاني: أن أبا العباس كان جالسا في مجلسه على سريره وبنو هاشم دونه على الكراسي وبنو أمية على الوسائد قد ثنيت لهم. وكانوا في أيام دولتهم يجلسون هم والخلفاء منهم على السرير وبنو هاشم على الكراسي، فدخل الحاجب فقال يا أمير المؤمنين بالباب رجل حجازي اسود راكب على نجيب متلثم يستأذن ولا يخبر باسمه، ويحلف ألا يحسر اللثام عن وجهه حتى يراك .قال هذا مولاي سديف فليدخل. فدخل فلما نظر إلى أبي العباس السفاح وبنو أمية حوله حسر اللثام عن وجهه وأنشأ يقول:
أصبح الملك ثابت الأساس بالبهاليل من بني العباس
بالصدور المقدمين قديما والرؤوس القماقم الرؤاس
أقصهم أيها الخليفة و احسم عنك بالسيف شأفة الأرجاس
و اذكرن مصرع الحسين و زيد و قتيلا بجانب المهراس
فتغير لون أبي العباس وأصابه رعدة، فالتفت بعض ولد سليمان بن عبد الملك إلى الرجل منهم قال :قتلنا والله العبد. ثم أقبل أبو العباس عليهم وقال:… أرى قتلاكم من أهلي قد سلفوا وأنتم أحياء تتلذذون بالدنيا ،خذوهم فأخذتهم الخرسانية فقتلوا. إلا ما كان من أمر عبد العزيز بن عمر بن عبد العزيز فانه استجار بداوود بن علي فأجاره .ودخل سديف على السفاح وعنده سليمان بن هشام بن عبد الملك فأنشده:
لا يغرنك ما ترى من أناس إن تحت الضلوع داءًا دوياً
فضع السيف وارفع السوط حتى لا ترى فوق ظهرها أموياً
فأمر السفاح بسليمان بن هشام فقتل.
وأما عبد الله بن علي فكان للأمويين منه يوم عصيب بنهر أبي فطرس بالشام. تتبع من كان بالشام من أولاد الخلفاء وغيرهم فأخذوهم ولم يفلت منهم أحد إلا رضيع أو من هرب إلى الأندلس .فقتلهم ولما فرغ من قتلهم قال:
بني أمية قد أفنيت جمعكم فكيف لي منكم بالأول الماضي
يطيب النفس أن النار تجمعكم عوضتم من لظاها شر معتاض
ثم عمد إلى قبور بني أمية فنبشها حتى يمحو آثارهم ،فنبش قبر معاوية بن أبي سفيان فلم يجدوا فيه إلا خيطا مثل الهباء ،ونبش قبر يزيد بن معاوية فوجدوا فيه حطاما كأنه رماد، ونبش قبر عبد الملك بن مروان فوجدوا جمجمته ،وكان لا يوجد في القبر إلا العضو بعد العضو، غير هشام بن عبد الملك فانه وجد صحيحا لم تبل منه غير أرنبة أنفه ،فضربه بالسياط وصلبه وحرقه وذراه بالريح
وأما سليمان بن علي فانه قتل بالبصرة جماعة منهم بمكة والمدينة عددا وافرا ،وكان قد حضر إلى مكة ومعه عدد من بني هاشم وعدد من بني أمية فأنشده إبراهيم بن هرمة قصيدة يقول فيها :
فلا عفا الله عن مروان مظلمة و لا أمية بئس المجلس النادي
كانوا كعاد فأمسى الله أهلكهم بمثل ما أهلك الغاوين من عاد
فشمر عن ساعده في قتل الأمويين حتى لم يبق أحدا إرضاء لشهوة الانتقام التي تمكنت من قلوب بني العباس .وكانت هذه المعاملة الشنيعة سببا لهروب الكثير منهم :عبد الرحمن بن معاوية بن هشام بن عبد الملك إلى المغرب، وتأسيسه بها مملكة واسعة الأطراف أعاد فيها مجد بيته. وكانت تنافس خلافة بني العباس في الشرق على صغر رقعتها .وكان ممن اختفى عمرو بن معاوية بن عمرو بن عتبة بن أبي سفيان ،فصار إلى سليمان بن علي بالبصرة وطلب منه أن يؤمنه ويحميه من سطوة العباسيين، فبعث سليمان بن علي إلى السفاح يطلب منه ذلك فأجابه إلى ما سأل، وأعطاه الأمان فكان هذا أول أمان بني أمية بعد أن بدد شملهم قتلا وتشريدا.
ولم تكن الشدة في المعاملة قاصرة على أعدائهم، بل نال أولياءهم منها شيء عظيم وعلى رأسهم -أبا سلمة حفص بن سليمان -وزير آل محمد. فحين تم الأمر لبني العباس واتهموه بأنه كان يريد تحويل الخلافة عنهم إلى آل علي بن أبي طالب وكانوا يريدون قتله فشاوروا في ذلك أبا مسلم الخراساني، فبعث السفاح أخاه أبا جعفر المنصور إلى خراسان لمقابلة أبي مسلم الخراساني واستشارته في ذلك .
فأذن له أبا مسلم في قتله فبعثوا رجلا إلى الكوفة لقتله، فقتله حين تربص له أثناء خروجه من عند السفاح وأشاعوا (العباسيين) أن الخوارج قتلوه
وكذلك كان الأمر مع- سليمان بن كثير- حيث اتهمه أبا مسلم الخراساني بنفس التهمة السابقة فأحضره وقال له: أتحفظ قول الإمام لي( من اتهمته فاقتله)؟ قال فاني قد اتهمتك. فأمر به فضرب عنقه.
أبو جعفر المنصور
هوأبوجعفر عبد الله بن محمد بن علي. ولد بالحميمة سنة 101هـ. تمت بيعته في اليوم الذي توفي فيه أخوه السفاح. وبقى خليفة حتى توفي في ذي الحجة سنة 158هـ.
الأحوال الداخلية في عهده
تولى المنصور الخلافة ولم تكن قد توطدت دعائمها. ولم يكن يخاف عليها من دولة الأمويين؛ لأنه لم يتبق لهم باقية يخاف منها، وإنما كان الخوف ينتاب المنصور من عدة جهات:
الأولى : منافسة عمه عبد الله بن علي
كان الخوف ينتاب المنصور من عمه؛ لما كان له من نباهة تذكر في بني العباس، ولأنه كان يدبر أمر جيوش الدولة من أهل خراسان وأهل الشام والجزيرة والموصل الذي أمره عليهم السفاح قبل وفاته ليغزو بهم الروم ،وقد أظهر المنصور خوفه هذا لأبي مسلم الخراساني حينما جاءه الخبر بوفاة أخيه والبيعة له ،وكان المنصور قد أرسل- عيسى بن موسى- إلى عمه -عبد الله بن علي- يطلب منه المبايعة،
ولكن عبد الله بن علي انصرف بمن معه من الجيوش التي كان يدبر أمرها- كما أخبرنا -وأعلن البيعة لنفسه وتحرك بهم حتى وصل إلى حران.
وما أن علم المنصور بذلك حتى سير لحربه أبو مسلم الخراساني، الذي جمع إليه الجنود والسلاح والطعام وخندق حول معسكره، وكان جنده مؤلفا من :أهل الشام والجزيرة وخراسان فخاف ألا يناصحه أهل خراسان إذا رأوا أبا مسلم الخراساني مطلا، فقتل أبو مسلم منهم نحو 17000 رجلا( وان كان هذا العدد مبالغ فيه) إلا أنه قتل عدد كبير منهم فأضعف بذلك قوته، ومما دل على قلة حزمه وذكائه أنه كان من ضمن القواد الذين معه (حميد بن قحطبة) وهو من كبار القواد في الدولة العباسية فأراد أن يستريح منه ولكنه لم يجرؤ أن يقتله في المعسكر؛ خوفا من تغير الجند عليه ، فكتب له كتابا ووجهه إلى- حلب –وعليها( زفر بن عاصم) وفي الكتاب: ( إذا قدم عليك حميد بن قحطبة فاضرب عنقه) لكن -حميد -فتح الكتاب في الطريق وعلم ما فيه ودعا أناسا من خاصته فأخبرهم بالأمر وشاورهم وقال لهم:( من أراد منكم أن ينجو بنفسه ويهرب فليسر معي فاني أريد أن آخذ طريق العراق، ومن يرد منكم أن يحمل نفسه على السير فلا يفشين سري وليذهب حيث أحب) فسار معه معظم الناس. وبذلك فقد أبو مسلم الخراساني أفضل قواده.
أما عن( عبد الله بن علي) فانه ترك -حران -واتجه إلى- نصيبين -فاتخذها معسكرا وحصنها ،فأقبل إليه أبو مسلم الخراساني وأراد أن يحتل موقع( عبد الله بن علي )لحصانته فبعث إليه أني لم أومر بقتالك ولكن أمير المؤمنين المنصور ولاني الشام وأنا سأذهب إليها، ومع أن( عبد الله بن علي) كان يفهم ما يريده أبو مسلم الخراساني، إلا أن جنده- أي جند الشام- وهم (جند عبد الله بن علي) قالوا له: كيف نقيم معك وهذا سيأتي بلادنا الشام وفيها حرمنا فيقتل من قدر عليه من رجالنا ويسبي ذرارينا .فأذن لنا حتى نعود إلى بلادنا الشام ونحمي من فيها ونقاتل العدو. ومع أن( عبد الله بن علي) حاول إقناعهم بأن أبا مسلم الخراساني لا يريد الشام وإنما يريد أن يذهبوا ويغادروا مكانهم الحصين- نصيبين- ليستولي هو عليه، إلا أنهم أمروا على المسير إلى الشام ،وبذلك ارتحل( عبد الله بن علي) معهم إلى الشام وترك الجميع المكان فاستولى عليه أبو مسلم مع من بقي معه من الجيوش ،وعلم( عبد الله بن علي) أن الحيلة انطلت عليه وعلى جيشه أهل الشام ،وكان لا بد للقتال أن يدور بين الجانبين ؛لان أبا مسلم ما جاء إلا لقتال (عبد الله بن علي) واستمر القتال بينهما ستة أشهر، إلا أن القوة كانت راجحة في معسكر أهل الشام (أي جند عبد الله بن علي) حتى إذا كان يوم الثلاثاء لسبع خلون من جمادى الآخرة سنة 137هـ كانت بينهما الموقعة الفاصلة ،وقد استعمل فيها أبو مسلم دهائه العسكري ،وذلك أنه أرسل إلى (الحسين بن قحطبة)
وكان على الميمنة أن أعر الميمنة وضم أكثرها إلى الميسرة، وليكن في الميمنة حماة أصحابك، فلما رأى ذلك(عبد الله) أعرى ميسرته لمقاتلة ميمنة أبي مسلم ،وضم أكثر جنودها إلى الميمنة بإزاء ميسرة أبي مسلم ،فكانت الهزيمة وحينما رأى( عبد الله بن علي) أن الهزيمة تمت خاف على نفسه وفر إلى العراق تاركا معسكره، فاحتواه أبو مسلم فأمن الناس ولم يقتل أحدا، أما (عبد الله بن علي )فقد سار إلى البصرة وكان أميرها أخاه (سليمان بن علي) فآواه وأقام عنده مدة متواريا عن الأنظار، ولما علم المنصور بذلك أرسل إلى- سليمان يأمره بإرسال أخيه (عبد الله بن علي )إليه وأعطاه من الأمان الكثير، فخرج به- سليمان- حتى قدم به إلى المنصور سنة 139هـ ،فأمر بحبسه وحبس من كان معه ثم أمر بقتل بعضهم، وأرسل آخرين منهم إلى خراسان ،فقتلوا هناك بينما استمر( عبد الله بن علي) في محبسه حتى مات سنة 147هـ.
الثانية : قوة أبي مسلم الخراساني
بعد أن قضى المنصور على عمه( عبد الله بن علي) وجه سيطرته على (أبي مسلم الخراساني )الذي أصبح بعد ذلك صاحب الشوكة والسلطان في الدولة، والذي زاده خوفا من هذا الرجل أنه- يعني أبا مسلم -بدأ لا يحترم كتب الخليفة العباسي المنصور، بل ويستهزئ بها إذا وردت إليه، لذلك صمم على الفتك به، لذلك بدأ يغير موقفه منه فبعد أن تمت هزيمة (عبد الله بن علي )بعث إليه رسولا ليحصي الغنائم التي غنمها -أبو مسلم -من عمه (عبد الله بن علي) فلما ورد الرسول المعسكر غضب- أبو مسلم -وكاد يقتل الرسول، وقال: (أأكون أمينا على الدماء غير أمين على الأموال) فعاد الرسول وأخبر المنصور بذلك، ولما خاف المنصور أن يشك- أبو مسلم -بذلك الموقف ويهرب بالتالي إلى خراسان ثم لا يستطيع أن يحصل عليه إلا بصعوبة شديدة. كتب إليه :أ(ني قد وليتك مصر والشام فهي خير لك من خراسان فأقم بالشام حتى تكون بقرب أمير المؤمنين) ولما ورد إليه الكتاب غضب- أبو مسلم –وقال: كيف يوليني الشام ومصر وخراسان من حقي، وصمم على التوجه إلى خراسان، لذلك لم يبق على المنصور إلا أن يستعمل المكر والدهاء، حيث ينصب له فخا يوقعه فيه من غير حرب ،فتوجهه المنصور إلى المدائن
أبي مسلم أن يأتيه ويقدم عليه، فكتب له كتابا ردا على طلبه يوحي خلاله أنه رجل صاحب قوة ويضع نفسه في صف -الخليفة المنصور- باعتبار أنه كان له سابق العهد في إقامة دعائم الخلافة العباسية ،فكتب إليه- المنصور- كتابا لينا وطلب من كلا الرجلين( عيسى بن موسى وأبا حميد المروزي) أن يحملاه إليه ،وحين وصل أبو حميد المروزي كلمه كلاما رقيقا فيه نصيحة وتذكير بحقوق الإمام وتخويف من تفريق الكلمة ،فاستشار- أبو مسلم- مختصيه فأشاروا عليه بألا يقدم على –المنصور- ؛لأنه لم يعد يأمنه بعد أن وقع في نفسه ما وقع فقال لأبي حميد:( ارجع إلى صاحبك فليس من رأيي أن آتيه) وحينئذ بلغه الرسالة الأخيرة، وهي التي حملها معه وطلب منه أن يسلمها لأبي مسلم في حالة امتناعه عن المجيء، وفيها :(يقول لك أمير المؤمنين لست للعباس وأنا بريء من محمد إن مضيت مشاقا ولم تأتني إن وكلت أمرك لأحد سواي، وان لم آل طلبك وقتالك بنفسي، ولو خضت البحر لخضته، ولو اقتحمت النار لاقتحمتها وراءك حتى أقتلك أو أموت قبل ذلك) لذلك لم يكن أمامه بعد ذلك إلا أن يقبل بالذهاب معه.
كان المنصور مصمما على قتل أبي مسلم، ولكن اجتهد أن يكون – أبي مسلم -آمنا لا يحس بشيء من الجفاء ،فلما قارب أبو مسلم- المدائن -أمر الناس وبني هاشم فتلقوه، حتى إذ أدخل على المنصور وسلم عليه سلاما لا يشوبه شيء مخيف أمره أن ينصرف ويزيل وعشاء السفر ويستريح ليلة، ولما جاء الغد أمر -عثمان بن نهيك- (رئيس الشرطة )فجاء بأربعة رجال من الحرس وأمرهم أن يكونوا خلف الرواق، فإذا هو صفق خرجوا وقتلوا- أبا مسلم- ثم دعاه فدخل عليه فأقبل عليه يحدثه عن -نصلين –(خنجرين )أصابهما في متاع عمه (عبد الله بن علي )فقال :هذا أحدهما للذي هو معه، فقال المنصور أرنيه، فأخذه وهزه المنصور ثم وضعه تحت فراشه؛ ليأمن على نفسه أن يفتك به- أبو مسلم- ثم سأله عن سبب قصده خراسان فقال دع هذا فما أصبحت أخاف أحدا إلا الله، فصفق حينئذ المنصور بيديه فخرج أولئك الحرس فقتلوه بسيوفهم، ثم أراد أن يفرق الجمع الذي أقبل معه، فأعطاهم جوائز أشغلتهم عن التفكير في الخلاف الذي دار بين الطرفين ،وبقتله ابتدأ- كما يعتقد المنصور- سلطانه الحقيقي.
الأحوال الخارجية في عهده
تم في عهد المنصور هروب- عبد الرحمن بن معاوية بن هشام بن عبد الملك -إلى بلاد الأندلس، حيث أسس فيها الدولة الأموية الثانية، وكان المنصور يعجب به وبقدرته وعزيمته ومع ذلك لم يكن بين الرجلين علاقة حسنة ،ولم يتسم -عبد الرحمن -هذا بأمير المؤمنين، بل تسمى بالأمير فقط ،وتعتبر أول بلاد اقتطعت من الخلافة الإسلامية الكبرى بالمشرق ،أما عن مملكة الروم التي تحد الخلافة الإسلامية من ناحية الشمال، فكان يعاصر المنصور فيها- قسطنطين الخامس- وكانت العلاقة بين الجهتين عدائية لا تترك أحدهما قتال الأخرى متى حانت الفرصة لكل منهما، فكانت الصوائف( الجنود التي تغزو في فصل الصيف )لا تنقطع عن العمل إلا لمانع، وحدث أن أغارت الروم سنة 138هـ على( ملطية )وهي في ذلك الآونة من الثغور الإسلامية ،فدخلوها عنوة .قهروا أهلها وهدموا سورها وعفا الملك عمن فيها من المقاتلة والذرية.
أما من موقف المنصور من هذا الاعتداء؛ فقد أرسل عمه- صالح بن علي- ومعه أخوه -العباس بن محمد بن علي- فتم على يديهما أولا: بناء ما كان صاحب الروم هدمه من ملطية، ثم غزو أرض الروم وكان مع -صالح بن علي- آختاه( أم عيسى ولبابة ابنتا علي) وكانتا نذرتا إذا زال ملك بني أمية أن تجاهدا في سبيل الله ،وغزا كذلك معهما- جعفر بن حنظلة البهراني -وكان ذلك سنة 139هـ ،وفيها أيضا تم استنقاذ المنصور الأسرى الذين كانوا في بلاد الروم من المسلمين .
وفي سنة 140هـ غزت جيوش الصوائف- الحسن بن قحطبة- مع -عبد الوهاب بن إبراهيم الإمام –وأقبل -قسطنطين -صاحب الروم في جيش كثيف، فنزل بهم- جيحان- فبلغه كثرة المسلمين فأحجم عنهم، ثم لم تنطلق الصائفة بعد ذلك حتى سنة146هـ؛ لانشغال المنصور بأمر(محمد وإبراهيم ابني عبد الله)واستمرت الصائفة حتى سنة 155هـ، حيث طلب بعدها صاحب الروم الصلح على أن يؤدي للمسلمين الجزية ،والذي تجدر الإشارة إليه هنا :أن هذه الاغارات التي حدثت بين الطرفين لم يقصد بها فتح ،،بل كان كل واحد من الجانبين ينتهز الفرصة فيجتاز الحدود التي لصاحبه ثم يعود إلى مقره ثانية وكذلك المصالحات لم تكن لتستمر بينهما فترة طويلة ،بل سرعان ما يعودون إلى ما كانوا عليه.
وعن الحدود الأخرى فكانت في الغالب محلا للاضطرابات، ولكنها كانت تسكن حالا بما يبذله المنصور من الهمة وإرسال الجنود إليها، وكان في كل ثغر جنود مرابطون من –المرتزقة-( وهم المفروض لهم عطاء من الديوان) ومن- المتطوعة- (وهم الذين ينتدبون للجهاد في سبيل الله لا يطلبون على ذلك أجرا إلا من الله تعالى) وكان الخليفة المنصور هو الذي يعين قائدهم وكان عددهم في ذلك الوقت كثير.
حركة الراوندية وهي احد حركات الموالي
لم يكد المنصور ينتهي من قتل أبي مسلم الخراساني حتى فوجئ بتعاليم جديدة يدعو إليها أهل فارس .وكانوا قبل الفتح الإسلامي يقدسون ملوكهم فيجعلونهم من مصاف الآلهة، وهؤلاء هم الراوندية نسبة إلى مدينة -راوند -القريبة من أصفهان وكانت مهد دعوتهم.
يقول المؤرخ المشهور بالمدائني المتوفى سنة 214هـ عن عقيدة الراوندية: أن رجلا من الراوندية كان يقال له الأبلق وكان أبرصا فتكلم بالغلو ودعا بالراوندية ،فزعم أن الروح التي كانت في عيسى ابن مريم صارت في علي بن أبي طالب –رضي الله عنه – ثم في الأئمة واحد بعد واحد إلى- إبراهيم بن محمد -سبط العباس عم النبي (ص)، وأنهم آلهة كما استحلوا الحرمات فكان كل رجل منهم يدعو الجماعة منهم إلى منزله فيطعمهم ويسقيهم ويبيح لهم الحرمات ،فبلغ ذلك- أسد بن عبد الله القسري- فقتلهم وصلبهم فلم يزل ذلك فيهم إلى اليوم، فعبدوا أبا جعفر المنصور وصعدوا إلى- الخضراء- (وهي القبة التي بناها المنصور ببغداد )فألقوا أنفسهم كأنهم يطيرون ،وخرج جماعتهم على الناس بالسلاح فأقبلوا يصيحون بابي جعفر المنصور) أنت أنت يعنون أنت الله )فخرج إليهم بنفسه فقاتلهم فأقبلوا يقولون: أنت أنت ،عندها لم ير المنصور بدا من الضرب على أيدي هؤلاء؛ لخروجهم عن الدين والدولة ،ولأن ذلك من شأنه أن يثير العرب عامة ،وقد سجن المنصور من زعماء الراوندية مائتي رجل، فأثار هذا نفوس أنصارهم فاجتمعوا وفتحوا السجن وأخرجوا الرؤساء منها ،ثم قصدوا المنصور وحاربوه فخرج إليهم ماشيا فتكاثروا عليه
وكادوا يقتلونه، لولا أن أغاثه معن بن زائدة الشيباني أحد قواد الأمويين الذين حاربوا العباسيين تحت إمرة -ابن هبيرة- والي العراق، وحينما أنقذ معن المنصور وهزم الراوندية كوفئ بولاية اليمن .
وكان أبو جعفر المنصور ينظر إلى الراوندية كأعداء سياسيين ؛لأنهم من أتباع عدوه أبي مسلم الخراساني الذين يعملون على تحويل الخلافة إلى ملك كسروري، كما كان ينظر إليهم باعتبارهم زنادقة يرون أن تعود المجوسية أو شكل من أشكالها كالزرادشتية أو المانوية أو المزدكية أو غيرها، فعاملهم كما عامل أبا مسلم الخراساني وقتلهم شر قتله، إلا أنه مع ذلك لم يستطيع أن يقضي عليهم قضاءا تاما ،فظهروا في صور مختلفة نراها في مثل ثورات المقنع الخراساني وبابك الخرمي وغيرهما.
الجيش
كان جيش الدولة العباسية في بدايتها مؤلفا من فريقين: (الأول) الجيوش الخراسانية( والثاني) الجيوش العربية وقوادهم من الفريقين بعضهم من العرب وبعضهم من الموالي ،وكان التنازع شديدا بين الفريقين بداعي العصبية كل يتعصب لأبناء جنسه، وكان أكبر القواد المعروفين في أول عهد الدولة -أبو مسلم الخراساني -لجيوش المشرق الخراسانية و-عبد الله بن علي -لجيوش المغرب
وأعظمها عربيا من -الجزيرة والشام- ولما خرج- عبد الله بن علي- عن طاعة -المنصور- وأرسل- أبو مسلم- لحربه فانتصر عليه رجحت كفة الخراسانيين وصارت الثقة بهم أعظم، ولكن ذلك لم يمنع –المنصور- من القضاء على -أبي مسلم- الذي نظر إليه نظرة الشريك المساوي في القوة والسلطان ،ويظهر أن المنصور لم يكن يرى لمصلحته ومصلحة أهل بيته ألا تظل كفة أهل خراسان راجحة فاصطنع كثيراً من رجالات العرب ،وسلمهم قيادة الجيوش، كما استعان بأهل بيته ،ومن أعظم قوادهم -عيسى بن موسى -الذي سيره المنصور لحرب- محمد بن عبد الله –وأخيه- إبراهيم -.
ومن مشهوري قواده العرب -معن بن زائدة الشيباني- وهو قائد شجاع كان في أيام بني أميه متنقلاً في الولايات ومنقطعاً إلى- يزيد بن عمر بن هبيره الفزاري- أمير العراق- فلما جاءت الدولة العباسية وحوصر- يزيد بن عمر- في -واسط -،أبلى معه يومئذٍ بلاءً حسناً، فلما سُلم يزيد وقتل خاف -معن -على نفسه من المنصور، فاستتر مدة طويلة ومازال على ذلك حتى كان يوم ثورة الراوندية على المنصور ،حيث اجتمع منهم حوالي- ستمائة رجل- ضد المنصور فخرج- معن-؛ ليقاتل في جانب المنصور، وأبلى بلاءً حسناً ،فكان نتيجة ذلك أن أعطاه- أبو جعفر المنصور- الأمان وأكرمه- أبو جعفر المنصور- بعشرة آلاف درهم- وولاه اليمن فمكث فيها مدة أحسن السيرة فيها .
حاضرة الخلافة
لما ولي أبو جعفر أنتقل من- الأنبار- إلى –الهاشمية- التي أسسها أخوه- أبو العباس السفاح -وأقام بها إلى أن عزم على تأسيس مدينة- بغداد- حاضرة بني العباس الكبرى ومظهر فخرهم ومدنيتهم ،وكان يريد أن يكون بعيدا عن –الكوفة-، فخرج يرتاد مسكناً لنفسه وجنده ويبتني به مدينة حتى صار إلى موضع- بغداد -وقال هذا موضع معسكر صالح .هذه –دجلة- ليس بيننا وبين الصين شئ. يأتينا فيها كل ما في البحر ،وتأتينا الميرة من :الجزيرة- وأرمينية -وما حول ذلك ،وهذا- الفرات -يجيء فيه كل شيء من- الشام –والرقة- وما حول ذلك، فنزل وضرب عسكره على- الصراة- وهو- نهر بين دجلة والفرات- ثم أمر بخط المدينة على مثال وضعه، وهي مدورة الشكل تقريبا، وجعل لها سورين :أحدهما داخل، وهو سور المدينة ،وسمكه في السماء 35 ذراعاً، وعليه أبرجه سمك كل برج منها فوق السور خمسة أذرع، وعلى السور شرف ،وعرض السور من أسفله نحو عشرين ذراعاً، ويليه من الخارج فصيل بين السورين، وعرضه ستين ذراعاً ،ثم السور الأول ودونه خندق ، وللمدينة أربعة أبواب كل أثنين منها متقابلين ،وكل منهما باب دون باب بينهما دهليز، وهكذا تأتي تفاصيل مدينة بغداد، وتتميز بسماكة جدرانها وقببها العظيمة المزخرفة ،وعلى كل باب من أبواب المدينة باب حديد عظيم كناحية أمنية .
وابتنى قصره الذي يسمى- الخلد –على- دجلة -وكان موضعه وراء باب خراسان ،وفي سنه 151هـ بنى المنصور- الرصافه- لأبنه المهدي وعمل لها سوراً وخندقاً وميداناً وبستاناً وأجرى لها الماء .
وبنى المنصور قصره والجامع في وسط المدينة ،وكان في صدر قصر المنصور إيوان طوله ثلاثون ذراعاً، وعرضه عشرون فوقه القبة الخضراء ،ومن الأرض إلى رأس القبة ارتفاع ثمانين ذراعاً .
وقد انفق المنصور على مدينته هذه ثمانية عشرة ألف ألف دينار ،ولما انتهى من بناءها بعث إليها العلماء من كل بلد وإقليم، فجاءها الناس أفواجاً ولم تزل تتعاظم ويزداد عمرانها حتى صارت أم الدنيا وسيدة البلاد ومهد الحضارة الإسلامية في عهد الدولة العباسية وصل عدد سكانها إلى مليونين .
محمد المهدي
هو محمد المهدي بن المنصور، ولد سنة 126هـ بالحميمة، تولى الخلافة سنة 158 وبقي فيها حتى توفي في المحرم من سنة 179هـ.
أعماله بعد توليه الخلافة
ساد خلافة المهدي الهدوء والاستقرار والرفاهية التي عمت الناس جميعا في عهده؛ وذلك لأن الخلافة العباسية قد توطدت وأنياب العلويين قد كسرت، وان كان قد بقيت لهم بقايا يتطلعون للخلافة فهم لا يحتاجون للاحتراس منهم إلى مثل ما كان المنصور يحتاج إليه من الشدة ،فان كبارهم قد وضعوا تحت نظر الخليفة ببغداد، والذين كانوا في المدينة اكتفى بمراقبة الخليفة لهم فكانوا يعرضون عليه كل يوم ،ولذلك كانت حياة المهدي سعيدة لنفسه لأمته؛ فهو من بعد أبيه يشبه في كثير من الوجوه الوليد بن عبد الملك بعد أبيه.
ففي أول ولايته- أمر بإطلاق من كان في سجن المنصور إلا من كان قبله تباعه دم أو قتل ،ومن كان معروفا بالسعي بالأرض بالفساد أو كان لأحد قبله مظلمة أو حق،، فالذين أطلقهم من كان جرمهم سياسيا أما أرباب الجنايات والمحبوسين لحقوق مدنية فإنهم ظلوا في حبسهم، وكان ممن أطلق -يعقوب بن داوود -كذلك أمر ببناء القصور في طريق مكة أوسع من القصور التي بناها السفاح في- القادسية- إلى- زبالة -،وأمر بالزيادة في قصور السفاح وترك منازل المنصور التي بناها على حالها، وأمر باتخاذ المصانع في كل منهل وهي -حيضان تبنى وتملا من مياه الآبار حتى يكون الاستقاء سهلا على رجال القوافل الذين لا ينقطع مرورهم من تلك الجهات- وأمر بتجديد الأميال والبرك وحفر الركايا مع المصانع وجعل لذلك عاملا خاصا يقوم به، وأمر أن يجرى على المجذومين وأهل السجون في جميع الآفاق ؛حتى لا يحتاج المجذومون الى المشي في الطرق وسؤال الناس، فيكونون سببا في انتشار المرض، وحتى يكون للمسجونين مايقومهم
فلا يموتون جوعا إلا من كان له أهل يسالون عنه ،وأقام البريد بين المدينة المنورة ومكة المكرمة واليمن بغالا وابلا أيضا،وزاد في المسجد الحرام والحرم المكي فأدخل به دورا كثيرا مما يحيط به وأخذ يجلس للمظالم وتدخل القصص إليه، فارتشى بعض أصحابه بتقديم بعضها ،فاتخذ بيتا له شباك حديد على الطريق تطرح فيه القصص وكان يدخله وحده فيأخذ ما يقع بيده من القصص أولا فأولا فينظر فيه فلا يقدم بعضها على بعض، إلا انه مع ذلك كله أخذت عليه بعض المآخذ ومن أهمها:
أنه أمر بمحو اسم الوليد بن عبد الملك من حائط المسجد النبوي وكتابة اسمه مكانه ،وهذا كثيرا ما يحدث من بعض الشخصيات الكبيرة التي تريد لنفسها العظمة والكبرياء فتنسب لنفسها أعمال غيرها.
حركة المقنع الخراساني وهي أحد حركات الموالي
ظهر هذا الرجل بخراسان وكان رجلا قبيح الخلق أعورا قصيرا من أهل مرو، عمل له وجها من ذهب وركبه على وجهه وادعى الألوهية، وكان يقول الله خلق آدم ،فتحول في صورته ثم في صورة نوح ثم نوح والأنبياء جميعا حتى محمد(ص)
ثم تحول بعده في صورة علي بن أبي طالب(رضي الله عنه) حتى وصل إلى صورة -أبي مسلم الخراساني- ثم زعم أنه انتقل منه إليه، وقال بإسقاط الصلاة والزكاة والصوم والحج، وأباح للناس الأموال والنساء لذلك عبده الناس وسجدوا له .
وقد أظهر المقنع قمرا يطلع ويراه الناس على مسيرة شهر ثم يأفل، وفي ذلك يقول أبو العلاء المعري :
أفق إنما البدر المقنع ضلال وغى مثل بدر المقنع
وكان المقنع في مبدأ أمره ينتحل مذهب- الزرامية -أتباع رزام ،ولما قوى أمر- المقنع- وكثر أنصاره انضم إليه أهل بخارى وسمرقند والأتراك الذين كانوا يقيمون حول بحر قزوين ،واعتصم بقلعة حصينة حول- كش- وأرسل إليه الخليفة المهدي سبعين ألفا في القلعة مع نفر يسير من أصحابه ،ولما شعر المقنع بالهزيمة أشعل النار وأحرق كل ما فيها من دواب وثياب ومتاع ،وأذاب النحاس والسكر في تنور وجمع نسائه وأولاده، وطلب ممن أحب من أصحابه أن يلقوا بأنفسهم في النار؛ ليرتفعوا إلى السماء فقال (أنا صاعد إلى السماء فمن أراد أن يصحبني فيشرب من هذا الشراب )وسقاهم شرابا مسموما وشرب منه فماتوا جميعا وألقى نساءه وأولاده في النار ثم ألقى بنفسه ؛كذلك خوفا من أن يظفر أعداءه بجثته أو جثث نساءه وذلك عام 169هـ.
ولكن موت المقنع لم يضع حدا لتعاليمه التي اعتنقها نفر من بلاد ما وراء النهر، وأصبحوا يعرفون باسم المقنعية المبيضة، واتخذوا في كل قرية مسجدا يصلون فيه ويستحلون الميتة والخنزير والنساء، وإذا رأوا مسلما قتلوه وأخفوا جثته .
الأحوال الخارجية في عهده.
كانت العلاقة بين الخلافة العباسية في بغداد وبين أمير الأندلس( عبد الرحمن الداخل )سيئة جدا، فكان المهدي ومن سبقه المنصور يهتمان بأمره ويودان إزالة دولته ، ولكن المسافة بعيدة فلم يكن باستطاعته أن يجرد -لعبد الرحمن- جيشا يخترق صحاري افريقية ويغزوه في بلاد الأندلس، لذلك اكتفى كل منهما بمعادة الآخر، وكان- شارمان- ملك فرنسا في ذلك الوقت مهتما بإعادة الدولة الرومانية الغربية التي محيت آثارها، وقد علم هذا المذكور ما بين الطرفين- المهدي- وعبد الرحمن -من عداوة شديدة، فأحب الاستفادة منها والتقرب( بمحاربة أمير الأندلس) إلى قلب الخليفة العباسي في بغداد –المهدي- ليكتسب بذلك نفوذا في الخلافة ،وبالتالي يرتفع قدره على ملك الروم في القسطنطينية- لاون الرابع- واجتهد في تحقيق بعض الشيء من ذلك في عهد هارون الرشيد.
أما عن العلاقات بين المهدي وملك الروم -لاون الرابع- فكان سيئة فلم تكن الاغارات من الطرفين تهدأ بل كانت الصوائف تعمل من جانب المسلمين، وبالمقابل كانت الغارات من ملك الروم، وكان ذلك برا وبحرا.
وفي سنة 263هـ ولى أمر الصائفة ابنه – هارون بن المهدي-(الرشيد) ،حيث كانت هذه الغزوة من أهم الغزوات في عهد المهدي ،فتح الله عليهم فيها فتحا كثيرا ،ومما فتح هؤلاء -حصن سمالا- بعد أن أ قاموا علية –(ثمانية وثلاثين ليلة)- وقد نصب عليها المجانيق حتى وكان فتحها على :ثلاثة شروط .ألا يقتل أهلها .ولا يرحلوا .ولا يفرق بينهم. فأعطوا ذلك، وأعطى لهم هارون بن المهدي ذلك، ثم قفل بالمسلمين سالمين إلا من كان أصيب منهم بذلك الحصن.
وفي سنة 165هـ.أعاد هارون –الغزوة على بلاد الروم مرة ثانية
ويقال أن عدد جيشه في هذه المرة بلغ أكثر من- تسعين ألف مقاتل- وكان الذي يقوم بأمر الروم في تلك الفترة -ايريني –(أم الملك )نيابة عن ابنها قسطنطين السادس، الذي يعتبر لا يزال صغير السن. جرى بينها وبين هارون مكتبات في طلب الصلح والموادعة وأعطاء الفدية، فقبل ذلك هارون واشترط عليها: أن تقيم الإدلاء والأسواق في طريقة؛ لأنه قد دخل مدخلا صعبا مخوفا على المسلمين ،فوافقت على هذه المطالب. حيث كان الاتفاق أن تعطيه 90000دينار، تؤديها في نيسان من كل سنة وكتبوا كتاب هدنة إلى ثلاث سنوات وسلمت الأسرى، وفي رمضان سنة 168 هـ( أي قبل انقضاء مدة الهدنة )نقض الروم الصلح المذكور، وغدروا فوجه إليهم -علي بن سليمان بن علي- وهو( والي الجزيرة وقنسرين )يزيد بن بدر البطال في سرية فردوا الروم وغنموا وظفروا .
وفيما يتعلق ببلاد الهند فقد أرسل المهدي سنة 169هـ- عبد الملك بن شهاب المسمعي -في البحر إلى بلاد الهند ،وبعث معه( ألفين رجل) من أهل البصرة( وألف وخمسمائة )من المطوعة( وسبعمائة )من أهل الشام( وأربعة آلاف) من السبابجة والاسواريين، وبعد أن وصل الجميع -بإربد من( أرض الهند) سنة 169هـ أقاموا عليها يومين ونصبوا عليها المجانيق حتى فتحوها عنوة ،وأشعلوا فيها النيران ،وقتلوا من أهلها بضعة وعشرون رجلا، وأقاموا فيها -باربد -فأصابتهم أمراض مات بسببها( ألف رجل ) ثم انصرفوا حتى إذا وصلوا ساحلا من فارس يقال له -بحر حمران -عصفت عليهم الريح فكسرت عامة مراكبهم ،فغرق منهم ونجا البعض الآخر.
موسى الهادي
هو موسى الهادي بن محمد بن جعفر بن منصور، ولد سنة 144هـ ،تولى الخلافة سنة 169هـ ،ولم يزل خليفة حتى توفي سنة 170هـ.
ثورة الحسين بن علي بن الحسن المثلث
وفي عهد- الهادي- خرج بالمدينة هذا الثائر المذكور سنة 169هـ ، وكان والي المدينة لوقته -عمر بن عبد العزيزبن عبد الله بن عمر بن الخطاب -، أخذ الحسن بن محمد النفس الزكية وجماعة كانوا على شراب فأمر بهم فضربوا جميعا، ثم أمر بهم فجعل في أعناقهم حبال وطيف بهم في المدينة، فصار إليه- الحسين بن علي- فكلمه فيهم وقال له: ليس هذا عليهم وقد ضربتهم ولم يكن لك أن تضربهم، و أهل العراق لا يرون به باسا فلم تطوف بهم ،فبعث إليهم وقد بلغو البلاط فردهم وأمر بهم إلى الحبس فحبسوا يوما وليلة ،ثم كلم فيهم فأطلقهم وكانوا يراقبون- الحسن بن محمد- وكان -الحسين بن علي- ويحيى بن عبد الله بن الحسن -كفلاه فأخذ الكفيلين وسألهما عنه فحلفا أنهما لا يدريان موضعه
فكلمهما بكلام أغلظ لهما فيه فحلف- يحيى بن عبد الله -ألا ينام حتى يأتيه أو يضرب عليه باب داره حتى يعلم أنه قد جاءه، فلما خرج قال – الحسين بن علي -لصديقة (سبحان الله كيف تحلف له بشيء لا تقدر عليه) قال( والله لا نمت حتى أضرب عليه باب داره بالسيف) وكانوا قد تواعدوا على أن يخرجوا بمنى أو مكة أيام الموسم وكان بالمدينة جماعة من أهل الكوفة من شيعتهم وممن كان بايع -الحسين بن علي- ففي آخر الليل خرجوا وجاء- يحيى بن عبد الله -حتى ضرب باب دار- مروان علي العمري- فلم يجده فيها ثم انتقلوا إلى المسجد ،وحين أذن الصبح جلس -الحسين بن علي- على المنبر وعليه عمامة بيضاء وإذا رأوهم الناس في المسجد رجعوا من غير أن يصلوا في المسجد، ثم جاءه الناس بعد ذلك يبايعون على كتاب الله وسنة رسوله للمرتضى من آل محمد ومع أن هناك جماعة قاومتهم لكنها لم تفلح، وبعد أن تم- للحسين بن علي -ما أراد نهبت جماعته بيت المال ،أما عن موقف الهادي من هذا الثائر فقد ولى أولا لحربه (محمد بن سليمان بن علي )
الذي سار بالسلاح والعدة وكان في تلك الفترة قد حج من أهل بيته( أي الهادي )منهم (العباس بن محمد) وكان على الموسم(بن أبي جعفر بن المنصور) المهم أن الجيش بقيادة- محمد بن سليمان- سار خلف خصمه- الحسن بن علي –حتى لقيه- بفخ -ودارت بين الطرفين موقعة قتل فيها هذا الثائر وجماعة ممن معه ،وأفلت من هذه الموقعة رجلان لهما تاريخ جليل وهما (ادريس بن عبد الله بن الحسين بن علي )اخو- محمد بن النفس الزكية- وهو مؤسس دولة الأدارسة بالمغرب الأقصى، والثاني أخوه (يحيى بن عبد الله )الذي ذهب إلى بلاد الدليم .
صفات الهادي
كان الهادي شديد الغيرة على حرمه ،ويشبه في ذلك –سليمان بن عبد الملك –في بني أمية ،وقد نهى أمه –الخيزران –أن لا يدخل عليها أحد من القواد أو رؤساء حكومته ،بعد أن كان لها نفوذ من الأمر في عهد المهدي ،مالم يكن لامرأة غيرها ،ولما مضى –أربعة أشهر- من خلافته ،أخذت المواكب تغدوا الى بابها ؛طمعا في عطاياها ،فأغضبه ذلك ،وقال لها:لئن بلغني أنه وقف ببابك أحد من قوادي أو خاصتي أو خدمي لأضربن عنقه ولأقبضن ماله وأرجو أن تشغلي نفسك بصلاتك وتسبيحك ومصحفك فسكتت .
وكان شجاعا قويا روي عنه :أنه كان يثب على الدابة وعليه درعان , وكان يرى الناس لا يصلحون إذا حجب خليفتهم عنهم، حتى أنه قال- للفضل بن الربيع -الذي أقامه في حجابته بعد أبيه( لا تحجب عني الناس فإن ذلك يزيل عني البركة ولا تلقي إلي أمر إذا كشفته أصبته باطلاً فإن ذلك يوقع بالملك ويضر بالرعية) وقال مرة- لعلي بن صالح- أأذن للناس وفتح لهم الأبواب فدخل الناس أفواجاً ،فلم يزل ينظر في مظالمهم إلى أن جاء الليل، وكان كريماً يشبه أباه في أعطياته ،ولكنه لم تطل مدته في الخلافة حتى يكون له في أحوال الأمة أثر ظاهر .
هارون الرشيد
هو هارون الرشيد بن محمد المهدي ،بويع بالخلافة سنة 170هـ ،ولم يزل حليفة حتى توفى 194هـ فكانت مدة خلافته 23سنة.
أسرة البرامكة ونكبتهم (171-187هـ )أي 17 سنة.
حرى بنا قبل أن نتناول ذكر النكبة أن نتعرف بشكل سريع على هذه الأسرة البر مكية، والذي لا مجال للشك فيه أن هذه الأسرة تنسب إلى جدها برمك ،وهو من مجوس بلخ وكان يخدم النوبهار، وهو معبد كان للمجوس بمدينة بلخ توقد فيه النيران،، فكان برمك وبنوه سدنة له ،ولما جاءت الدعوة العباسية كان خالد بن برمك من أكبر دعاتها، وكان ذا صفات علية أهلته للسيادة ورفعة القدر في صدر الدولة، حيث بقي وزيرا في عهد –السفاح- وأبو جعفر المنصور- ثم توفي سنة 163هـ في أوائل خلافة المهدي. ثم اختار المهدي- يحيى بن خالد بن برمك- وزيرا لابنه- هارون المهدي -وكان يدير أمره؛ لذلك كان يناديه يا أبي ،وبعد ذلك أصبح- يحيى بن خالد- وزيرا لهارون الرشيد وكان ليحيى بن خالد أربعة أولاد (الفضل- جعفر –محمد-موسى).
1-فأما (الفضل بن يحيى) فهو أكبر الأخوة حيث كان ينوب عن أبيه في أهم الأعمال وأجلها، وتولى مهمة القضاء على حركة (يحيى بن عبد الله بن الحسن )حيث احتال عليه واستنزله من معقله (ببلاد الديلم ) بأمان من غير أن يريق في ذلك نقطة دم، وكان ذلك سنة 176هـ، وفي سنة 178هـ ولاه هارون الرشيد خراسان وثغورها فأحسن السيرة بها، وبنى بها الرباطات والمساجد وغزا ما وراء النهر.
وكان- الفضل بن يحيى -في جميع الأعمال التي أسندت إليه كفؤا نزيها ،وكان من أكثر البرامكة كرما وكان الناس يسمونه في بدء أعماله بالوزير الصغير ،وكان بعيدا عن منادمة الخليفة (هارون )حتى أنه يقول (لو كان الماء ينقص من مروءتي ما شربته).
2-وأما( جعفر بن يحيى) فهو ثاني أولاد يحيى، وكان سمح الأخلاق طلق الوجه ظاهر البشر، وكان جوده وسخاؤه وعطاؤه كثير، وكان الرشيد يأنس به أكثر من إخوانه جمعيا ؛لسهوله أخلاقه فكان أكثر إخوانه منادمة للرشيد ،وكان أبوه ينهاه عن ذلك حيث قال للرشيد بصراحة (يا أمير المؤمنين أنا والله أكره مداخلة ابني جعفر معك ولست آمن أن ترجع العاقبة في ذلك علي منك، فلو أعفيته واقتصرت به على ما يتولاه من جسيم أعمالك كان ذلك أفضل)وكان سلطان جعفر عند الرشيد قويا حيث كان يتولى أمر ديوان الخاتم وأمارة مصر سنه 176هـ . وفي سنه 180هـ هاجت العصبية بالشام بين أهلها وتفاقم أمرها فاغتم الرشيد لذلك ،وعقدت لجعفر على بلاد الشام ليتحرك إليها بالقوة والرجال وأصلح بين الناس فقتل اللصوص فيهم ولم يدع بها رمحا ولا فرسا، فعاد الجميع إلى الأمن والطمأنينة وانطفأت نار تلك العصبية.
-وأما( موسى بن يحيى )فكان أشجع القوم وأشدهم بأسا لم ينل من الشهرة ما ناله أخواه (الفضل وجعفر) إلا أنه كان في تلك الدولة عاملا سريا وقائدا باسلا ،ولاه الرشيد الشام سنه 186هـ قبل أن تقوم ثائرة العصبية فيها ،حيث كانت فيها فتن كثيرة وعصيان فاتجه بجند وقوة وأصلح بين أهلها وسكن الفتن واستقام أمرها. اتهمه (علي بن عيسى بن ماهان) أمير خراسان من قبل الرشيد بأنه هو السبب في اضطراب خراسان عليه وأخبره بطاعة أهلها (لموسى بن يحيى ) ومحبتهم إياه ،وأنه يكاتبهم ويعمل على التنصل من الخليفة والانضمام معهم ضده ،فخاف الرشيد وتوحش من موسى وسجنه، لأجل ذلك وبسبب أنه كان عليه دين لبعض الناس واختفى منهم، فظن أنه هرب إلى خراسان مصداقا لما قاله له أميرها، لذلك سجنه ثم أطلق سراحه.
4-وأما( محمد بن يحيى) فكان سريا بعيد الهمة ولم يكن له الشهرة ما لإخوته، وعموما كانت هذه الأسرة في عهد الرشيد غرة في جبين دولته، جمعوا من الصفات المحمودة ما استحقوا به ثناء معاصريهم من الكتاب والشعراء. رآهم الناس بعد هذا العز المتين والشرف الباذخ منكوبين على يد الرشيد( فجعفر) مقتول بناحية –الأنبار- في آخر ليلة من محرم سنه 197هـ وجسمه مصلوب ببغداد على ثلاثة جسور، ثم احرق (ويحيى بن خالد) وبقية أبناءه محبوسون، ورأوا مصادرة لكل ما يملكون من عقار ورقيق، ورأوا كتبا أرسلت إلى جميع العمال في نواحي البلدان والأعمال بقبض أموالهم وأخذ وكلائهم وامرأ بالنداء في جميع البرامكة أن لا أمان لمن أواهم، إلا (محمد بن خالد بن برمك )وولده وأهله وحشمة فان الرشيد استثناهم لما ظهر له من نصيحة منه.
تساءل الناس بعد ذلك عن الأسباب التي دفعت بالرشيد إلى مثل هذه النكبة. فنسب بعضهم ذلك إلى مجرد الملل والغيرة ،حيث يقول سعيد بن سالم(لقد طالت أيامهم وكل طويل مملول) ولقد رأى الرشيد انس النعمة بهم وكثرة حمد الناس لهم ورميهم بآمالهم دونه، فتعنت عليهم وتجنى وطلب مساوئهم ووقع منهم بعض الادلال خاصة (الفضل وجعفر) دون يحيى، ولاذ من أعدائهم بالرشيد( كالفضل بن الربيع) وغيره فستروا المحاسن وأظهروا القبائح حتى كان ما كان.
ونسب بعضهم ذلك إلى (حادثة يحيى بن عبد الله بن الحسين) الذي روينا حديث ذهابه إلى بلاد الديلم ،واستنزال- الفضل بن يحيى -إياه بأمان الرشيد . ذكر أبو محمد اليزيدي وكان فيما قيل من أعلم الناس بأخبار القوم( من قال الرشيد قتل- جعفر بن يحيى- بغير سبب- يحيى بن عبد الله بن الحسن -فلا تصدقه )وذلك إن الرشيد دفع –يحيى- إلى –جعفر- فحبسه، ثم دعا به ليلة من الليالي فسأله عن شيء من أمره فأجابه إلى أن قال (اتق الله في أمري ولا تتعرض أن يكون خصمك غدا محمد (ص) فوالله ما أحدثت حدثا ولا آويت محدثا ) فرد عليه وقال (اذهب حيث شئت من بلاد الله ) قال: (وكيف أذهب ولا آمن من أرد إليك بعد قليل) فوجه معه من أبلغه إلى مأمنه ،وبلغ ذلك (الفضل بن الربيع) من عين كانت له عليه فعلم الأمر فوجده حقا فدخل على الرشيد وأخبره فأراه أنه لا يعبأ ولا يهتم بخبره
فانكسر الفضل وجاء جعفر فدعا بالغداء فأكلا وجعل يلقمه ويحادثة إلى أن قال له :ما فعل يحيى بن عبد الله قال :لازال في السجن، وحينما حدثته نفسه أنه ربما علم بأمره وإخراجه من السجن، عاد مرة أخرى وقال بسرعة لا وحياتك يا سيدي لقد أطلقته؛ لأنني علمت أنه لا حياة به ولا مكروه عنده، قال له الرشيد: نعم ما فعلت وتركه يذهب ثم أخذ يتبعه بصره وقال( قتلني الله بسيف إن لم أقتلك.)
ونسب ذلك بعضهم إلى حديث العباسة بنت المهدي التي تناقلها المؤرخون وزادوا عليها الكثير ومؤداها ( أن( جعفر بن يحي ) كان يحب (العباسة بنت المهدي)ونسب إليه أنه ولدت له غلاما، فخافت (العباسة بنت المهدي) على نفسها من أخيها( هارون الرشيد) فبعثت بابنها مع حواضن لها إلى مكة، فلم يزل الأمر مستورا عن الرشيد حتى وقعت عداوة بين العباسة بنت المهدي وبين بعض جواريها، فعلم بالخبر فكان ما كان من قتل جعفر بن يحيى.-وهي رواية ضعيفة .
العلاقات الخارجية
كان يعاصر الرشيد أثناء حكمه في الأندلس الأمير( عبد الرحمن الداخل) ثم (هشام بن عبد الرحمن) ،(الحكم بن هشام) وفي المغرب الأقصى (ادريس بن عبدا لله بن الحسن بن علي بن أبي طالب) وهو أول المتغلبين من البيت الإدريسي، ثم ابنه (ادريس )ويعاصره في فرنسا( شارل الكبير) المعروف بشارلمان ويعاصره في مملكة الروم بالقسطنطينية (قسطنطين السادس) وكانت تدبره لصغره أمه( ايريني) ثم خلعها نقفور وحل محلها.
أما فيما يتعلق بالروم فمن أعمال الرشيد :أنه عزل الثغور كلها عن الجزيرة وقنسرين وجعلها حيزا واحدا سميت بالعواصم وقاعدتها منبج.
وسماها بالعواصم؛ (لأن المسلمين كانوا يعتصمون بها فتمنعهم من العدو إذا انصرفوا وانتهوا من الغزو) ومن هذه العواصم: دلوك. ورعبان. قورس. إنطاكية .وتيزين. وكان يغزو جيش الصائفة (عبد الرحمن بن عبد الملك بن صالح )حيث وصل سنة 175 هـ إلى –اقريطية- وفي سنة 181هـ كان على الصائفة (هارون الرشيد )بنفسه حيث فتح: حصن الصفصاف، وغزا (القاسم بن الرشيد )بلاد الروم فحاصر حصن قرة. بينما حاصر( العباس بن جعفر) حصن سنان. فلما أنهكت الروم دفعوا للمسلمين أسراهم وكانوا 320 رجلا مقابل أن يرحلوا عنهم فأجابوهم إلى ذلك، وعن( ايريني )التي كانت تنوب عن ابنها
(قسطنطين السادس) منذ سنة 180هـ ثم استبدلت بالملك سنة 190هـ فاتفقت مع الرشيد على الصلح مقابل جزية تدفعها له؛ وذلك لما رأته من إلحاح المسلمين عليها بالحرب وعدم قدرتها على الدفاع؛ لوقوعها بين المسلمين من جهة وبين –شارلمان- من جهة أخرى، لأن شارلمان(كما ذكرنا) كان يريد توسيع سلطانة وإعادة دولة الرومان إلى بهجتها التي كانت لها في القدم .وفي سنة 182هـ نهضت عليها عصابة رومية فخلعتها عن الملك وجعلت بدلها نقفور، فعقد هذا أولا معاهدة مع شارلمان عينت فيها حدود المملكتين ثم التفت إلى الرشيد وكتب إليه :(من نقفور ملك الروم إلى هارون ملك العرب أما بعد فان الملكة التي كانت قبلي حملت إليك من أموالها ما كنت حقيقا بحمل أمثاله إليها، لكن ذلك ضعف النساء وحمقهن، فإذا قرأت كتابي فاردد الأموال وإلا فا لسيف بيننا وبينك) فلما قرأ الرشيد هذا الكتاب غضب وكتب إليه( بسم الله الرحمن الرحيم من هارون أمير المؤمنين إلى نقفور كلب الروم قد قرأت كتابك والجواب ما تراه دون أن تسمعه والسلام.)
ثم اتجه (الرشيد) إلى جانب –هرقلة- ففتح وغنم، فطلب نقفور الصلح على خراج يؤديه كل سنة فأجابه إلى ذلك، فلما رجع من غزوته وصار الرشيد- بالرقة- نقض نقفور العهد وكان البرد شديدا، فيئس نقفور من رجعته إليه، لكن الرشيد تحامل على نفسه ورجع مره ثانية وقاتل نقفور، ولم تقف الحروب بين الطرفين.بعد ذلك .
وفي سنه 189هـ حصل فداء بين المسلمين والروم فلم يبق بأرض الروم مسلم إلا فودي به.
وفي سنة 190هـ قاد( الرشيد) الصائفة وفتح- هرقلة- ونشر جيوشه في أرض الروم وكانت عدتهم 135 ألف مرتزق عدا المطوعة، وكان فتح- هرقلة- بعد الإضرار بها وسبي أهلها ومحاصرتها (ثلاثين يوما) ثم سار( الرشيد) إلى- الطوانة -ثم تركها وخلف عليها -عقبة بن جعفر- وأمره بابتناء منزله هناك، ثم بعث نقفور بالخراج والجزية عن رأسه وبطارقته، ثم طلب من الرشيد جارية من بنات هرقلة كان قد خطبها نقفور لابنه ،وصادف أن وقعت تلك الجارية أسيرة عند المسلمين، فبعث الرشيد بتلك الجارية ومعها العطر والتمور والهدايا والديباج واشترط عليه :ألا يخرب الرشيد- حصن ذي الكلاع -ولا صملة -ولا سنان- وفي المقابل اشترط الرشيد على نقفور ألا يعمر- هرقلة -ويحمل إليه ثلاثمائة ألف دينار.
وفيما يتعلق( بأوربا) فقد عاصره كما قلنا( شارلمان) الذي كان ملكا على فرنسا واستولى على- لمبارديا -وقاد طوائف السكسون التي كانت في جرمانيا إلى الدين العيسوي بعد أن كانت وثنية، واستولى على : ألمانيا. وايطاليا. وكان يرغب أن يكون له اسم كبير في الديار الشرقية؛ ليعلو بها على نقفور ملك القسطنطينية ،وكان يرغب أن يكون حاميا للعيسويين في البلاد الإسلامية؛ وخصوصا زائري القدس فأرسل إلى بغداد سفراء يستجلبون رضا الرشيد مقابل أضعاف الدولة الأموية بالأندلس؛ وكانت هناك حسن استجابة من الرشيد واستفاد( شارلمان) من ذلك التودد فائدتين :
الأولى: تمكنه من حرب الدولة الأموية بالأندلس وتدخله في مساعدة الخارجين عليها.
الثانية : نيله رضا الرشيد، كذلك أراد أن يغتنم من الناحية العلمية خاصة وأن أوروبا في وقته كانت مهد جهالة لأنه بانقراض الرومانيين وغلبة الأمم المتبربرة على أوروبا انطفأ مصباح العلم.
وكانت الحال في البلاد الإسلامية على العكس من ذلك فكانت مهدا لانطلاق العلم والعلماء ،وخاصة في : بغداد. وقرطبة .فذهب إلى أوروبا أطباء تعلموا في البلاد الإسلامية وكانوا من اليهود، فانتخب منهم (الرشيد) رجلا يقال له( إسحاق )وبعثه الى( الرشيد ) ومعه هدايا وهي : ساعة وراغنون. وفيل. وبعض أقمشة نفيسة ،فلما نظر إليها رجال( شارلمان) هموا بكسرها؛ لأنهم ظنوا أنها من الأمور السحرية فمنعهم الإمبراطور.
أما عن علاقة بغداد بقرطبة فكانت علاقة سيئة جدا ،إذ أن الرشيد كان ينظر إلى بني أمية نظر الخارجين على دولته ،فكان يود القضاء عليهم ، ولكن القوم كانوا أكبر من ذلك وأقوى ،لذلك قاوموا قوة(شارلمان)مقاومة عظيمة ،فلم يتمكن أن يفعل بهم شرا.
حضارة بغداد في عهد الرشيد
وصلت بغداد في عهد( الرشيد) إلى قمة مجدها ومنتهى فخارها، فمن حيث (العمارة) فاقت البلاد الأخرى ،حيث بنيت فيها القصور الفخمة التي أنفق على بناء بعضها :مئات الألوف من الدنانير ،وتألق مهندسوها في إحكام قواعدها وتنظيم أمكنتها
وصارت قصور الجانب الشرقي –بالرصافة- تناوح قصور الجانب الغربي ، وكان في الشرق قصور البرامكة وما أنشأوه هناك من الأسواق والجوامع والحمامات ،وبالجانب الغربي قصور الخلافة التي كانت تبهر الناظرين اتساعا وجمالا، وامتدت الأبنية امتدادا حتى صارت بغداد كأنها مدن متلاصقة تبلغ الأربعين على جانبي دجله، وصار سكانها نحو ألفي ألف نسمة حتى ازدحمت بساكنيها وكانت متاجر البلدان القاصية تصلها برا وبحرا تجيئها من :خراسان وما وراءها من الهند. والصين. و الشام. والجزيرة. والطرق إذ ذاك أمنة والسبل مطمئنة .
أما من حيث( ثروة الدولة) فقد كان يرد على الخليفة ببغداد ما يبقي من خراج الأقاليم الإسلامية بعد أن تقضى جميع حاجاتها ،وقدر بعض المؤرخين ذلك بنحو( أربعمائة ألف ألف درهم )يدخل كله بيت مال الخليفة ،وكان( الرشيد )أسمح خلفاء بني العباس بالمال، يعطي منه العطاء الكثير وقد سار على نهجه وزراؤه وشيوخ دولته ورؤساء قواده، حتى امتلأت الكتب بذكر عطاياهم ،حتى اشتد بهم الترف والبذل حتى يقال أن (جعفر بن يحيى) بنى قصرا أنفق على بنائه( عشرين ألف ألف درهم )وتغالى الناس في حاجاتهم وتألقوا في معيشتهم حتى صارت بغداد تبهر أعين زوارها .
أما( العلم )فقد صارت بغداد قبلة لطلاب العلم من جميع الأمصار الإسلامية يرحلون ليتمموا ما بدأوا فيه من العلوم والفنون ،فهي المدرسة العليا لطلا ب العلوم الإسلامية والدينية والعربية على اختلافها، فقد كان فيها كبار المحدثين والقراء والفقهاء وحفاظ اللغة وآداب العرب والنحويون، وكلهم قائمون بالدرس والافاده لتلاميذهم في المساجد التي كانت تعتبر مدارس عليا لتلقي هذه العلوم، وجميع هؤلاء العلماء كانوا يعيشون عيشا رغدا مما كان يفيضه عليها
( الرشيد ) ولم تكن بغداد بالمقصرة في علوم الدنيا كالطب والحكمة وغيرهما من سائر الصناعات، فقد حشد إليها الأطباء والمهندسون وسائر الصناع من الأقاليم المختلفة فاستفادوا العلوم ممن سبقهم من الأمم في المدينة: كالفرس .وأهل الروم. وزادوا على تلك العلوم بما منحوا من المواهب العقلية .
عبد الله المأمون بن هارون الرشيد
هو عبد الله المأمون بن هارون الرشيد بن محمد المهدي، ولد سنة 170هـ ،وبويع بالخلافة في السنة التي
توفى فيها أخوه سنة 198هـ ،وبقي في الخلافة حتى توفي غازيا بطرسوس سنة 218هـ ،فكانت خلافته عشرين سنة .
الأحوال الداخلية في عهده
خبر إبراهيم المهدي
حين كانت القوى تتصارع في عهد الأمين بين مؤيد ورافض، ولى أهل بغداد عليهم رجلا أطلق عليه (إبراهيم المهدي) ولما كان النصر للمأمون على أخيه الأمين اتجه الأول من –سرخس- ليسيطر على -بغداد- وكان كلما قرب زاد الاضطراب على( إبراهيم) فتركه القواد الذين كانوا يؤيدونه فبقي لوحده، وكان لابد أن يختفي ؛حتى لا يأخذه رجال المأمون، وتم ذلك سنة 3 20هـ، وظل مختفيا يتنقل من دار إلى دار إلى سنة 210 هـ، وفي تلك السنة أخذه حارس أسود وهو متنقب مع امرأتين في زي امرأة، فأعلم المأمون بخبره، فأمر بالاحتفاظ به ثم دخل به عليه ،فقال له: هيه (يا إبراهيم) فقال يا أمير المؤمنين ولى الثأر محكم في القصاص ،والعفو أقرب إلى التقوى، ومن تناوله الاعتزاز بما مد له من أسباب الشقاء أمكن عادية الدهر من نفسه
وقد جعلك الله فوق كل ذنب كما جعل كل ذنب دونك، فان تعاقب فبحقك وان تعف فبفضلك قال:
بل أعفو يا إبراهيم فمدحه إبراهيم في قصيدة:
يا خير من ذملت يمانيه به بعد الرسول لآيس أو طامع
وأبر من عبد الإله على التقى عينا وأقوله بحق صادع ….. الخ
فرد عليه( المأمون) قائلا أقول لك ما قال يوسف لإخوته (لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم وهو أرحم الراحمين).
ومن الغريب أن المأمون قد اطلع قبل ذلك على مؤامرة يقصد بها خلع المأمون وإعادة (إبراهيم بن المهدي )للخلافة، ورئيس هذا الأمر( إبراهيم بن محمد بن عبد الوهاب) المعروف- بابن عائشة- وكان إطلاع المأمون على ذلك يوم السبت 5 صفر سنة 210 هـ، وقد انتقم المأمون من ابن عائشة انتقاما شديدا فقد أمر أن يقام ثلاثة أيام في الشمس على باب دار المأمون، ثم ضربه بالسياط، ثم أمر بحبسه في المطبق ،وفعل قريبا من ذلك بمن كانوا معه، وقد كتبوا أسماء من دخل معهم في هذا الأمر من القواد والجند وسائر الناس، فلم يعرض المأمون لأحد ممن كتبوا به ،ولم يأمن أن يكونوا قد قذفوا أقواما برآء، ثم أمر المأمون بعد ذلك بابن- عائشة -فقتل وصلب. ويقال أنه( أول مصلوب في الإسلام من بني العباس) وقتل معه ثلاثة من رؤوس المتآمرين.
نصر بن شيث
كان هذا الرجل من بني عقيل. يسكن يكسوم شمالي حلب ،وكان عربيا شريفا شهما له في( محمد الأمين) هوى، فلما قتل الأمين غضب خاصة أنه لما رأى العنصر العربي قد انحط شانه، وصار معظم القواد الأمراء من غيرهم ،فأعلن الخروج عن السلطان( المأمون )وكان ذلك أواخر سنة 198هـ، وتغلب على ما جاوره من البلاد وملك( سميساط) وانضم إليه خلق كثير من الأعراب وأهل الطمع وقويت شوكته وعبر الفرات إلى الجانب الشرقي وسيطر عليه.
ولما انتصر (طاهر بن الحسين )على -الأمين -وملك العراق ولى (الحسن بن سهل )على كل ما افتتحه وأمر أن يسلم ذلك إليه وأن يسير إلى –الرقة-؛ لمحاربة( نصر بن شيث) وولاه( المأمون) الموصل. والجزيرة. والشام .والمغرب ،فسار طاهر إلى و جهه، وأرسل إلى نصر يدعوه إلى الطاعة وترك الخلاف، فلم يجب فتقدم إلى (طاهر) ولقيه بنواحي- يكسوم- فاقتتلا هناك قتالا عظيما انتصر فيه نصر وعاد العراق وغيره .
أما عن( نصر بن شيث) فقد اتجه بعد انتصاره إلى السيطرة على( الجزيرة) حيث أتى الطالبيون فعرضوا عليه :أن يبايع لخليفة وذلك من آل على بن أبي طالب فرفض ذلك ،ثم عرض عليه أن يبايع أحد بني أمية فقال هؤلاء أدبر أمرهم وانتهى ،فعرض عليه أحد بني العباس فقال هؤلاء حاربتهم لأنهم يقدمون العجم على العرب ،ولما دخل( المأمون )بغداد طلب من( طاهر بن الحسين) أن يبعث بابنه عبد الله بن طاهر لمقاتلته( نصر بن شيث) وأعوانه وأمره بالجد في ذلك عندها كتب- طاهر- إلى ابنه عبد الله كتابا مشهورا، جمع فيه كل ما يحتاج إليه الأمراء من الآداب والسياسة والحث على مكارم الأخلاق، وهذا الكتاب قد تنازعه الناس وكتبوه وشاع أمره وبلغ المأمون خبره فدعا به فقرأ عليه، فقال ما أبقى طاهر شيئا من أمر الدنيا والدين والتدبير والرأي والسياسة وطاعة الخلفاء إلا وقد أوصى به ، ولكن اشترط نصر على المأمون ألا يطأ بساطه ،فرفض المأمون ذلك وكاتبه بعد ذلك عن طريق( عبد الله بن طاهر) وحينذاك هدم( يكسوم) وخربها ووجه بنصر إلى( المأمون )فدخل بغداد في صفر سنة 210 هـ ووكل به من يحفظه ويحرسه.
بابك الخرمي في عهد المأمون
كانت بلاد الفرس التي نشأ فيها بابك كثيرة المعتقدات والبدع سواء كان ذلك قبل الإسلام أم بعده ،ولهذا ظهرت فيها الطوائف الدينية على اختلافها ومنها طائفة الخرمية ،التي كان من مبادئها تحويل الملك من العرب المسلمين إلى الفرس والمجوس، وكذلك: تأليه البشر. فقد ادعى بابك أن روح جاويدان حلت فيه (كما سيأتي ذكره )ويؤمنون بمبدأ الرجعة التي قال بها غلاة المتشيعين وهم (الخرمية) يرفضون جميع الفروض الدينية كالصلاة والصوم والحج والزكاة، وأباحوا شرب الخمر ونادوا بإباحة المحرمات والاشتراكية في النساء ،كما أنهم لم يشعروا بأي ميل أو عاطفة إزاء أحد من أهل البيت، وان كانوا قد اتخذوا من أسمائهم سبيلا إلى جذب الأنصار إليهم؛ لنشر دعوتهم التي ترمي إلى هدم العقائد الإسلامية.
أما عن (بابك الخرمي) فقد نشأ بقرية -بلال أباد -ثم اتصل( بجاويدان بن سهرك )ملك جبال البذ ورئيس من بها من الخرمية ،وكان جاويدان هذا يرى من -بابك -فهما وشهامة وخبثا فقر به إليه ،ولما أدركته منيته اجتهدت امرأته في أن يكون بابك مكانه في الملك، فجمعت الخرمية وقالت لهم( إن جاويدان قال لي إني أموت في ليلتي هذه، وأن روحي تخرج من جسدي وتدخل بدن هذا الغلام خادمي، وقد رأيت أن أملكه على أصحابي، فإذا مت فأعلميهم ذلك وأن لا دين لمن خالفني فيه واختار لنفسه خلاف اختياري) فقبلوا ذلك منه وقالوا( آمنا بك يا روح بابك كما آمنا بك يا روح جاويدان )لذلك تزوجت هذه المرأة بابك.
أخذ بابك بعد ذلك يعيث الفساد في الأرض، حتى أنه لما توجه (المأمون )من- مرو- إلى- بغداد- عين احد قواده لقتاله وهو( يحيى بن معاذ) فاشتبك معه هذا ولم تكن هناك نتيجة فاصلة بينهما، مما جعل المأمون يختار قائدا آخر وهو (عيسى بن محمد بن أبي خالد) فهزم هذا، ثم أرسل غيره وهو( أحمد الأسكافي) فأسر بابك لديه ،ثم وجه إليه المأمون
( محمد الطوسي) فقتله بابك سنه 214هـ ،وكل هذه الانتصارات التي يحرزها بابك ترجع؛.. إلى مكانه الحصين وقوته الكبيرة وشدة تأثيره في قلوب الجمهور الذين كانوا معه. حتى أن المأمون أوصى أخاه( المعتصم )حين أدركته المنية ولم يستطع القضاء عليه ،فقال له (والخرمية فاغزهم ذاجزمة وصرامة وجلد، واكنفه بالأموال والسلاح والجنود من الفرسان والرجال، فان طالت مدتهم فتجرد لهم بمن معك من أنصارك وأوليائك، واعمل في ذلك عمل مقدم النية فيه راجيا ثواب الله عليه)
الأحوال الخارجية
لم يكن بين المسلمين والروم حروب في أول عهد( المأمون) إلى سنة 215هـ. وفيها اتجه بنفسه من –بغداد- لغزو الروم فسلك طريق- الموصل- حتى صار إلى- منبج- ثم- دابق –ثم- إنطاكية- ثم- المصيصة
–ومنها خرج الى -طرسوس –(وهي الثغر الإسلامي )ومنها دخل الى بلاد الروم ،ففتح (حصن قرة) عنوة وأمر بهدمه، واشترى سبيه بسته وخمسين ألف دينارا ثم خلى سبيلهم وأعطاهم دينارا دينارا ، كما فتح أيضا (حصن ماجدة وسندس وسنان) وبعد ذلك سار المأمون إلى الشام وهناك ورد الخبر عليه بأن ملك الروم قتل قوما من أهل( طرسوس والمصيصة )عدتهم 6600 ،فأعاد الكرة على بلاد الروم فصالحه أهل (انطيفوا وهر قله) ووجه أخاه( اسحق )فافتتح ثلاثين حصنا ثم خرج المأمون إلى( يكسوم )ثم دمشق ثم مصر سنة 216هـ ،ثم عاد الى دمشق سنه 217هـ فدخل أرض الروم للمرة الثالثة فأناخ على( حصن لؤلؤة )مائة يوم ثم رحل عنها وخلف عليها (عجيف بن عنبسه )فخدعه أهلها وأسروه ثمانية أيام ثم أخرجوه بعد ما قبلوا بالأمان. اتجه بعد ذلك المأمون سنة 217هـ إلى( الرقة) ثم سير ابنه العباس إلى أهل الروم وأمره بنزول (الطوانة) وبنائها فبناها ميلا في ميل وجعل سورها على ثلاثة فراسخ وجعل لها أربعة أبواب وبنى على كل باب حصنا ،ثم سار بعد ذلك إلى بلاد الروم فدخلها من ناحية طرسوس وهناك كانت وفاته.
عصر الازدهار العلمي والحضاري
العلم في عهد المأمون
كان عهد المأمون من أرقى عهود العلم في العصر العباسي، وذلك لأمرين :(الأول)أن المأمون نفسه قد اشتغل بالعلم وأمعن فيه حينما كان- بمرو-؛ فقد جالس كثيرا من العلماء ،وأخذ عنهم جملة صالحة من العلوم الدينية كالحديث والتفسير والفقه واللغة العربية .(الثاني) ما كان من الأمة نفسها حيث وجد فيها شوقاً إلى العلم والبحث وكثرة العلماء في الأمصار، أما العلوم الدينية فمنها ما يرجع إلى لأصل الدين :وهو :علم الكلام أو التوحيد، ومنها ما يرجع إلى أحكام الأعمال :وهو الفقه وأصوله وأدلة تلك الأحكام من القران والحديث.
.ظهر في ذلك الوقت جمهور من رؤساء المتكلمين ،توغلوا في البحث في أصول الدين والعقائد وحكموا في البحث عقولهم، فأنتج لهم ذلك اعتقادات تخالف ما عليه عامة المسلمين ،وجمهور علمائهم المعروفين بعلماء الحديث ،وهم الذين يستمدون آرائهم من النصوص السمعية. كتاب أو سنة. أو من آثار السلف. وكان أول ما نشأ الخلاف في مدينة -البصرة -وامتد منها إلى- بغداد –ووجد- بالبصرة –منهم- واصل بن عطاء الغزال -ثم -عمرو بن عبيد- الذي كان- المنصور- يحبه ويفضله على جميع معاصريه من العلماء ،ثم الهذيل محمد بن هذيل العلاف وإبراهيم بن سيار النظام .
وأهم هذه المسائل الذي خالفوا فيها الجمهور أهل الحديث: (1) مسألة القدر وأفعال العباد. فكانوا يقولون أن أفعال العباد مخلوقة لهم- لا لله -ومن أجل ذلك يستحقون عليها الثواب والعقاب (2) صفات الله تعالى .فقد نزه المعتزله الله عن ثبوت صفات قائمة بذاته، من القدرة والإرادة والسمع والبصر والحياة والكلام وقالوا: إن الله قادر بذاته وقدير بقدرته .
وكما كان الاختلاف قد ظهر في أصول الدين فقد ظهر في الفقه ،الذي هو أحكام أفعال العباد، فكان من أئمة الفقهاء أهل حديث وأهل رأي، ووجد من كلا الفريقين علماء أجلاء وفقهاء عظماء، اعترف لهم الناس بالتقدم ونحى نحوهم بالتشريع واقتدوا بمن سبق عصر المأمون،، كأبي حنيفة وأصحابه ومالك وأصحابه وغير ذلك
علوم الصناعات
كما كانت للمأمون جولة في العلوم الدينية كانت له جولة في العلوم الصناعية وقدكان أثره في هذه أظهر من أثره في تلك. كما يتبين مما يأتي:
كانت الأمة العربية أمة أمية ،لا تتعلق بشيء من الصناعات ولا العلوم إلا قليلاً ،فلما جاء الإسلام وجد رجال من الدولة الأموية اعتنوا بالصناعات وترجموا كتبها، وأول من عُرف أسمه في ذلك (خالد بن يزيد بن معاوية) الذي كان يسمى (حكيم آل مروان) وكان له همة في العلوم والكيمياء، حيث أحضر جماعة من فلاسفة اليونان ممن كان ينزل مصر، وأمرهم بنقل الكتب من اليونانية والقبطية إلى العربية، ثم نُقل الديوان من الفارسية إلى العربية في أيام الحجاج عن طريق صالح بن عبد الرحمن (مولى بني تميم)، ثم نقل ديوان الشامي بالرومية في زمن- هشام بن عبد الملك -عن طريق- ثابت بن سليمان بن سعد -وكان أول من عنى بترجمة الكتب- أبو جعفر المنصور- وكان الذي قام بترجمة الكتب له طبيبه- جورجس بن جبرائيل- ترجم له كتباً كثيرة من اليونانية إلى العربية، وترجم له ابن المقفع كتاب كليلة ودمنه .
فلما كان زمن -هارون الرشيد- وغلب على بعض المدائن الرومية الكبرى –كأنقرة- و- عمورية- عثر على كنز ثمين من كتب اليونان، فأمر أن تترجم له، فترجمت وبذلك كانت حركة الترجمة أقوى منها في عهد المنصور، وكان للبرامكة يد طولى في الترجمة ،وعون المترجمين عليها بما كانوا يدرونه عليهم من الأرزاق.
ولما ولي المأمون كان قد تأثر فكره بما قرأ من هذه الكتب وأحس بنفعها ،فقوى حركة الترجمة ونشطها ونشطها تنشيطا أساسه الاقتناع بالفائدة ،وساعده الجود والبذل في هذا السبيل ،وكان بينه وبين ملك الروم مراسلات، فسأله في أحدها في الأذن بإنفاذ ما عنده من مختار العلوم القديمة المخزونة والمدخرة في بلاد الروم، فأجاب إلى ذلك بعد امتناع فأخرج المأمون لذلك جماعة منهم الحجاج بن مطر- وابنه- بطريق- وسلما صاحب بيت الحكمة وغيرهم، فأخذوا مما وجدوه من هذه الكتب .
ولم تكن هذه العناية قاصرة على المأمون وحده بل كان لعهده جماعة ذوو يسار اعتنوا جد العناية بنقل هذه الكتب إلى اللسان العربي، ومن هؤلاء- محمد وأحمد والحسن بنو شاكر المنجم -حيث أرسلوا إلى بلاد الروم من يأتيهم بأفضل الكتب وغرائب المصنفات في الفلسفة والهندسة والموسيقى والطب وقاموا بترجمتها إلى العربية .
وكان- المأمون- مغرما بعلوم الأوائل وتحقيقها ،ورأى فيها أن دور كرة الأرض 24000 ميل كل ثلاثة أميال فرسخ فيكون المجموع 8000 فرسخ بحيث لو وضع طرف حبل على أي نقطة كانت من الأرض وأدرنا الحبل على كرة الأرض حتى انتهينا من الطرف الآخر…. فأراد- المأمون- أن يقف على حقيقة ذلك ،فسأل- بني موسى- المذكورين عنه فقالوا: نعم هذا قطعيا فقال: أريد أن تعملوا الطريق الذي ذكره المتقدمون حتى نبصر مصداقية ذلك ،فطبقوا ذلك تطبيقاً فعلياً على الواقع .
وكان هناك كثيراً غير- بني شاكر- يحذون حذوهم في ذلك ،فكثرت الكتب المترجمة في جميع الكتب العلوم الصناعية، فلما نقلت إلى العربية اشتغل بها الناس كثيرا علما وعملاً فوجد منهم فلاسفة عظام في هذه العلوم من العرب ،أولهم- يعقوب بن إسحاق الكندي- وكان عظيم المنزلة عند- المأمون- والمعتصم -وله مصنفات جديدة ورسائل كثيرة جداً في جميع العلوم ،وأيضاً- سليمان بن حسان- والذي كان عالماً بالطب والفلسفة وعلم الحساب والمنطق والنجوم .
فالمأمون يعد في الحقيقة حامل لواء العلوم وسبب تلك الحركة الكبرى التي وجدت في الأمة الإسلامية، مع حفظ الفضل لمن سبقه في ذلك كأبيه الرشيد ،وجده المنصور فإنهما وضعا الأساس وهو حذا حذوهم إلا أنه فاقهم في الاهتمام والعزم .
محمد بن الرشيد ( المعتصم بالله) وفتح عمورية
هو أبو إسحاق محمد بن الرشيد بن المهدي بن المنصور. ولد سنة 179هـ. بويع بالخلافة سنة 218هـ .وبقي فيها حتى توفي بمدينة سامراء 227هـ.
بابك الخرمي في عهده
كان لابد على المعتصم بعدما تولى الخلافة أن ينهي أمر هذا الثائر، خاصة وأن هناك وصية قوية تلقاها من أخيه المأمون في أواخر حياته يحرصه فيها على استعمال كلما لديه من قوة ضد هذا الرجل بابك؛ لذلك بذل المعتصم جهده حتى لا يمتد شر بدعته في البلاد الفارسية فاختار لحربه قائدا تركيا من كبار قواده وهو( حيدر بن كلوس الأشروسني) المعروف( بالأ فشين )وذلك سنة 230هـ ،فبدأ هذا( أولا) بأن أرسل( محمد بن يوسف )إلى مدينة (أردبيل )وأمره( ثانيا ) أن يبني الحصون التي خربها بابك، ويجعل فيها الرجال لحفظ الطريق لمن يجلب الميرة إلى( أردبيل )، وفي طريقه هذا أوقع بسرية أرسلها بابك للإغارة عليه ،وهذا أول مرة ينهزم فيها لبابك جند ،ثم نظم البريد بينه وبين الجيش، فجعل من (سامراء إلى حلوان )خيلا مضمرة في عدة مراكز تحمل الكتب بأقصى سرعة، حتى أنه يقال: أن الخريطة تصل من عسكر الأفشين إلى سامراء في أربعة أيام وأقل.
ثم بعد ذلك توجه (الأفشين) حتى أتى( برزند) فعسكر بها ورمى الحصون فيما بين (برزند وأردبيل) وأنزل قوادا من قواده ببعض الحصون ؛ لحراسة القوافل وأطلق كذلك عيونه وجواسيسه لتعرف الأخبار عن – بابك -وأول وقعة كانت بينه وبين عسكر- بابك -عند أحد حصون (الأفشين) ، حيث خرج بابك ليسيطر على مال كان قد أرسله( المعتصم) مع أحد قواده، فعلم به (الأفشين) فخرج إليه سرا والتقيا على مقربة من الحصن، فسيطر جند( الأفشين )على رجال بابك ، بينما أفلت بابك نفسه في نفر يسير واتجهوا نحو( البذ )في شمال بلاد الفرس فسار( الأفشين )من مكانه نحوهما مع رجاله، وكان قد استعد للأمر، فدارت لظى الحرب بين الطرفين وانتهى الأمر باقتحام المسلمين( البذ )واستيلائهم عليه، وقد أراد بابك الهرب فأفسد عليه ا(لأفشين) خطته وسد عليه الطرق ،حيث أوقف عليها جند امن جيشه القوي ،وأخيرا قبض عليه وعلى أخيه (عبد الله) وعاد بهما( الأفشين )إلى( سامراء) كما أمره المعتصم بذلك ومعهما 17 رجلا من أهل بيته. وكان يوم دخولهم( سامراء) يوما مشهودا ثم قتل( بابك )وصلب( بسامراء) كما فعل بأخيه (عبد الله )مثل ذلك.
الجدير بالذكر أن جميع من قتل بابك في عشرين سنة( 22500) إنسان، وكان عنده الأسرى الذين استنقذهم (الأفشين )من يده (7600)إنسان .
ثورة الافشين والمازياز
لم يكن المعتصم ينتهي من ثورة( بابك )التي هددت ملكه ،وأفنت كثيرا من جنده، وأضاعت أمواله ،حتى فوجئ بثورة( الأفشين)وبمؤامرته التي دبرها بالاشتراك مع(المازيار) وكان الأخير رئيسا (للمحمرة)وهم (فرقة من الخرمية أتباع بابك الخرمي) وقد تألق نجم( المازيار) في أيام( المأمون) فوثق به وولاه -جبال شروين- في أطراف طبرستان وسماه محمدا.
ولما مات (المأمون) وولي أخوه( المعتصم) الخلافة كشف( المازيار) عن ميوله الثورية ودارت المراسلات بينة وبين( بابك) وعرض عليه، مساعدته في ثورته على الخليفة العباسي وانتهز( المازيار) فرصة انشغال الخلافة العباسية بحرب( بابك) فاتصل( بالأفشين) و(ببابك) سرا ،وعمل ثلاثتهم على محو الإسلام من بلادهم،، والتخلص من حكم العرب فهذه الثورة( تعتبر ثورة دينية وسياسية معا يراد بها الاستقلال عن الدولة العباسية )ويقال أن (الأ فشين) عرف بالتعصب لبلاده وللمجوسية، وأنه وجد في داره أصناما قيل أنه كان يعبدها ،وكتب للزنادقة، كما أباح( الأفشين) لنفسه أكل المخنوقة من الحيوانات ،وكان لا يذبح على طريقة المسلمين، وكان( كالمقنع الخرساني) حين يكاتب قومه يبدأ بقوله( من اله الآلهة إلى عبده فلان )وقد ذكر المسعودي( المازيار )بعد أن قبض عليه أقر على( الأفشين) أنه بعثه على الخروج والعصيان، و من محاكمة( المعتصم) (للأفشين) يتبين مبلغ تعصب (الأفشين) لدينه ووطنه وتنكشف سلسلة التهم التي رمى بها ،كما نتبين اهتمام( المعتصم)
بكشف غوامض هذه المؤامرة الخطيرة التي دبرها (الأفشين) وأنصاره ،لذلك نراه يعقد لمحاكمته مجلسا برئاسته ،ومعه وزيره( محمد بن عبد الملك الزيات) وقاضيه( أبي داوود) وكثير من رجالات الدولة، ولكن خاتمة( الأفشين )لم تكن كخاتمة (بابك )؛فانه أودع السجن ،ومات مسموما ،ثم أخرجت جثته ،فصلبت ،وأحرقت مع الأصنام التي وجدت في داره سنة 226هـ.
فتح عمورية
حين انتهى أمر بابك الخرمي سأل المعتصم أي بلاد الروم أمنع وأحصن فقيل- عمورية -ولم تكن غزيت قبل ذلك، فتجهز المعتصم جهازا لم يجهزه خليفة قبله من السلاح والعدد والآلة، وكانت التعبئة على أن يكون في المقدمة –أشناس- وعلى الميمنة- إيتاخ -وعلى الميسرة -جعفر بن دينار- وأمر( الأفشين) أن يمضي فيدخل بلاد الروم من- درب الحدث- فلما وصل -أشناس –إلى- مرج الأسقف- ورد عليه كتاب من المعتصم يأمره بالتوقف؛ لأنه بلغه عن ملك الروم أنه على- نهر اللامس- ويريد العبور ليكبس- أشناس- وجنده، لذلك أقام بالمرج ثلاثة أيام، فلما علم بواسطة جواسيسه أن ملك الروم ارتحل عن النهر لمقابلة- الأفشين- أرسل إلى المعتصم بذلك الخبر، فبعثوا- الأدلاء- يخبرون- الأفشين- بذلك، وأمره أن يقف مكانه ؛حذراً من مواقعة ملك الروم قبل أن تجتمع الجيوش
فلم تصل هذه -الأدلاء- الى الأ-فشين- فضل على مسيره ،حتى التقى بملك الروم، فكانت بينهم موقعة هائلة فغلب ملك الروم وهزمه هزيمة منكره، أما عسكر- أشناس- والمعتصم فإنهما وردا أ-نقرة- من غير أن يلقيا حربا .
وحينئذ. قسم المعتصم الجيش ثلاثة أقسام. قسم فيه –أشناس- في الميسرة، وقسم فيه –المعتصم وهو القلب ،وقسم فيه –الأفشين- وهو الميمنة ،وسارت هذه الأقسام حتى بلغت( عمورية) وبينها وبين– أنقرة سبع مراحل، وكان أهل عمورية قد تحصنوا وتحرزوا من لقاء المسلمين ،فحاصرها المسلمون ونصبوا عليها المجانيق وأقاموا الأبراج ،؛فضربوا بالمجانيق الأسوار ليحدثوا فيها ثغوراً ينفذوا من خلالها ،،فدخلوا ودار القتال بين الطرفين واقتحموا( عمورية )عنوة وغنموا منها مغانم كثيرة، وانتقم المعتصم من الروم بما فعلوه في- زبطرة- وملطية -وبعد انتهاء الواقعة عاد المعتصم الى- طرسوس- وكان ذلك في 6 رمضان 223هـ ،فرجع عنها بعد 55 يوماً، ولما ورد المعتصم سامراء كان دخوله إليها يوماً مشهوداً .
خلافة الواثق بالله وملامح من سياسته
هو أبو جعفر هارون الواثق بالله بن المعتصم بن الرشيد، أمه اسمها قراطيس ،ولد سنة 186هـ، بويع بالخلافة عقب وفاة والده 8 ربيع الأول 227هـ ،ولم يزل خليفة إلى أن توفي في ذي الحجة 232هـ
ويعاصره من الملوك والأمراء المستقلين من كان يعاصر أباه ،إلا في مملكة الروم بالقسطنطينية فإن –توفيل- مات في السنة التي توفي فيها المعتصم وخلفه ابنه- ميخائيل الثالث – وكان إذ ذاك صبياً، ولم يستوزر الواثق غير( محمد بن عبد الملك الزيات )وكان يقوم مقام رجاله كلهم؛ حيث صار صاحب الأمر والنهي في خلافته أكثر مما كان في عهد أبيه ،أما عن الجيش فقد كانت حاله في عهد الواثق كما كانت في عهد أبيه ،إلا أنه قدم المماليك التي اصطنعهم المعتصم وتوطدت سلطتهم، فأصبح الأتراك أصحاب نفوذ عظيم ولا سيما- أشناس -الذي توجه الواثق وألبسه وشاحين بالجوهر في شهر رمضان 288هـ ،وقد قام قواد الأتراك بأعظم الأعمال الحربية حتى في جزيرة العرب نفسها، أما عن أسباب الاضطراب الذي كان هناك في عهد الواثق ؛فقد كان بنو سليم من قيس عيلان من أقوى القبائل العربية وأكثرها عددا، وكانوا ينزلون بالقرب من حرة بني سليم ،فاجترءوا عليه بالتطاول حول المدينة بالشر
وكانوا إذا وردوا سوقا من أسواق الحجاز أخذوا سعرها كيف شاءوا ،ثم أوقعوا- بالجاريناس –من- كنانة وباهلة- وقتلوا بعضهم في جمادى الآخرة 230هـ، وكان رئيسهم (عزيز السلمي )فوجه إليهم أمير المدينة( محمد بن العباس )-حماد بن جرير الطبري- فتوجه إليهم وقاتلهم- بالرويثه -لكن هزم جند حماد بعد أن قتل وحازت بنو سليم السلاح والثياب وغلظ أمرهم ،فاستباحوا القرى والمناهل فيما بينها وبين مكة والمدينة ،حتى لم يمكن أحد أن يسلك تلك الطريق، وتطرقوا من يليهم من قبائل العرب فوجه إليهم الواثق -بغا الكبير- في الشاكرية والأتراك والمغاربة ،فشخص الى حرة بني سليم وعلى مقدمته- طردوش التركي- فلقي بني سليم في قراهم وقتل منهم حوالي خمسين وأسر مثلهم، ثم دعاهم الى الأمان على حكم الواثق فأتوه واجتمعوا إليه ،فاحتبس منهم من وصف بالشر والفساد وهم حوالي -ألف رجل- وخلى سبيل سائرهم ،ثم رحل بالأسرى الى المدينة في ذي القعدة سنة 230هـ
وشخص الى مكة حاجاً ثم وجه الى- بني هلال- من عرض عليهم مثلما عرض على- بني سليم- فأقبلوا، وحجز من مردتهم نحو- ثلاثمائة رجل- وخلا سائرهم ثم انصرف الى المدينة وجعل المحبوسين من -بني هلال- مع أخوتهم من -بني سليم -وجمعهم في دار( يزيد بن معاوية )في الأغلال والاقياد وعدتهم- ألف وثلاثمائة -رجل ،وسار هو الى بني مرة( المحبوسين )فنقبوا السجن، ليخرجوا فعلم بهم أهل المدينة فمنعوهم من الخروج، وقاتلوهم في الغد في صباح اليوم الثاني وقتلوهم جميعاً .
أما ما فعله- ببني مرة- وفزارة- الذي تغلبوا على( فدك):فإنه لما قاربهم أرسل إليهم رجلاً فزارياً يعرض عليهم الأمان ويأتيه بأخبارهم ،فلما قدم عليهم –الفزاري- حذرهم سطوته وزين لهم الهرب فهربوا ودخلوا البرية وخلوا- فدكاً- ،ولم يستأمن إليه إلا القليل، وهرب الباقون إلى موضوع –البلقاء- من دمشق، ثم صار إليه جماعة من بطون غطفان. وفزارة. وأشجع. فلما صاروا إليه استحلفهم الأيمان المؤكدة :ألا يتخلفوا عنه متى دعاهم ،فحلفوا ثم اتجه لطلب- بني كلاب -ووجه إليهم رسله، فاجتمع إليه منهم -ثلاثة آلاف رجل- فاحتبس من أهل الفساد -ألف وثلاثمائة رجل- ،ثم قدم بهم –المدينة- في رمضان سنة 231هـ ،فحبسهم بها ،ثم شخص إلى- مكة -حاجاً، ورجع إلى- المدينة- بعد حجه، فأرسل من كان استحلف من :ثعلبه. وأشجع.
وفزارة. فلم يجيبوه وتفرقوا في البلاد، فوجه في طلبهم فلم يلحق منهم كثير، وفي سنة 232هـ أمرهم- الواثق -أن يذهبوا الى غزو- بني نمير- ؛لما كان من عبثهم وفسادهم في الأرض، فمضى
نحو- اليمامة -يريدهم فلقي منهم جماعة عند موضع يقال له- الشريف -فحاربوه فقتل منهم 54 رجل وأسر منهم 400 رجل، ثم سار إلى قرية لبني تميم تدعى- مرأة- فعرض عليهم الأمان ودعاهم إلى السمع والطاعة وهم يمتنعون ويشتمون رسله، فسار- بغا- إليهم من- مرأة -في أول صفر 232هـ حتى دخل بخيله ،وأرسل إليهم أن ائتوني ،فأرسل إليهم سرية لم تدركهم، وسار إلى موضع يسمى- روضة الإبان -فجعل يدعوهم الى طاعة أمير المؤمنين ،ويكلمهم بذلك- محمد الجعفري- فجعلوا يقولون له: يا محمد إنك ما راعيت حرمة الرحم ،ثم جئتنا بهؤلاء العبيد والعلوج تقاتلنا بهم والله لنرينك العبر، فلما أصبح الصبح عليهم حملوا على- بغا- وجنده وكانوا قد جعلوا رجالهم أمامهم وفرسانهم ونعمهم ومواشيهم من ورائهم فهزموا بغا وجيشه، وكاد يهلك لولا حصول أمر لم يكن مقصوداً ،وذلك أنه كان قد وجه من أصحابه (بغا) نحو 200 رجل ليغير على خيل لهم وجدوها بمكان من بلادهم فلما كان جيش- بغا -على شرف الانكسار إذ عادت هذه الجماعة
منصرفة من الموضع التي وجهت إليه في ظهور- بني نمير- فنفخوا في صفارتهم -فسمع العرب نفخ الصفارات وظنوا أنه قد جاء كمين من خلفهم فولوا هاربين، وأقام- بغا -بموضع الواقعة ،واستراح ثلاثة أيام ثم أرسل الهاربون يطلبون الأمان فأعطاهم -بغا -الأمان فسار بهم- بغا- إلى- البصرة- في ذي القعدة 232هـ، وأرسل إلى -صالح بن العباس -أن يسير بمن قبله من -المدينة –من: بني كلاب. وفزارة. ومرة. وثعلبة .وغيرهم فوافاه –صالح- ببغداد- وساروا جميعاً إلى- سامراء -وكانت عدة الأسرى جميعاً 2300 رجل .
نكبة الكتاب في عهد الواثق
سئل الواثق وزيره ذات ليلة عن سبب نكبة الرشيد للبرامكة؟ فأجابه أنهم استهلكوا الأموال .فقال الواثق لقد صدقت وإنما العاجز من لا يستبد، وأخذ في ذكر الخيانة وما يستحق أهلها ،ولم يمضي على ذلك أسبوع حتى أوقع بكتابه وعذبهم، حتى أدوا المال الذي ظن أنهم اختانوه مما عهد إليهم في حفظه ومنهم :احمد بن إسرائيل , سليمان بن وهب , أحمد بن الخصيب , إبراهيم بن رباح .
العلاقات الخارجية في عهد الواثق
كانت الحرب دائمة الاتصال بين المسلمين والروم، ولم تقدر إحدى الدولتين أن تتغلب على الأخرى ،وكثيراً ما يكون في يد إحدى الدولتين أسرى من الأخرى، ولما كان يهم كلتا الدولتين أن تخلص أسراها حذراً من الاسترقاق؛ كانتا تتفقان على مفاداة كل أسير بمثله ،وأول فداء حصل كان في عهد الرشيد على -نهر اللامس- قريباً من- طرطوس- فودي فيه( بثلاثة آلاف وسبعمائة أسير) من المسلمين على يد- القاسم ابن الرشيد- وحصل فداء مثله في عهده أيضاً فودي( بألفين وخمسين).
.وقد كان الفداء الثالث في عهد -الواثق -سنة 231هـ، أرسل ملك الروم إلى- الواثق -رسلاً يسألونه أن يفادي بمن في يده من أسارى المسلمين ،فأجاب وانتدب للفداء- خاقان الخادم –بعد أن أعد من أسرى الروم عدداً كبيراً ،وقد تقابل الفريقان في يوم عاشوراء سنة 231هـ على- نهر اللامس -وكان عدد من فودي به من المسلمين (4600 )منهم(600 )نساء. وصبيان. ومنهم من- أهل الذمة- نحو( 500 )فوقع الفداء كل نفس عن نفس صغيراً. أو كبيراً، وقد عقد المسلمون جسراً على النهر، وعقد الروم جسراً ،فكان المسلمون يرسلون الرومي على جسرهم، ويرسل الروم المسلم على جسرهم ،وقد أعطى- خاقان الروم –
ممن كان فضل في يده (100 )نفس ليكون له عليهم الفضل استظهاراً ،ومن غريب ما حصل في هذا الفداء أن- أحمد بن أبي داؤد القاضي- أرسل مندوباً من قبله يمتحن الأسرى حتى لا يفدى منهم من لا يقول بأن القرآن مخلوق. وهذا غلو قد وصل إلى نهايته .
2)العصر الاول العباسي -5/1/2021
نظرة تحليلية للخلافة العباسية في عصرها الأول
الحقيقة أننا لا نستطيع أن نتخذ عصر السفاح قاعدة للخلافة العباسية في عصرها الأول ؛لأن لقب السفاح أولاً أطلق في الأصل على عمه -عبد الله بن علي -ومهما كان الوضع فيعتبر عصره عصر تصفية وتثبيت لأهداف الثورة العباسية , كما أنه لم ينفرد بسلطة إنما أشرك بني العباس كلهم , باعتبار أن القضية هي قضية مصير بالنسبة لهم .
والمنصور هو الذي حاول بكل ما استطاع من قوة وجهد أن يحقق النمط التقليدي للخلافة القوية القادرة المسيطرة ،ولعله من هذه الوجهة يمكن أن يسمى بالمؤسس الحقيقي للدولة العباسية ،فقد تصدى لمشاكل كثيرة وقف في وجهها دون خوف وتغلب عليها جميعها، ووضع الأساس الحقيقي للنظام العباسي الذي سار عليها الخلفاء العباسيون من بعده، والمنصور هو الذي أتم الدور التأسيسي من حياة الدولة العباسية وصان حدودها ،وأمسك بزمام قيادتها. أما في الحدود فإن دراسة الحدود الشامية الجزرية عند -جبال طوروس- تظهر الجهد العظيم الذي بذله المنصور بما بنى من حصون .
أما بنسبة لزمام القيادة فإنه كان يطمع باستعادة الأندلس للخلافة كما كانت في عهد بني أمية، كما كان يطمع باستعادة الغرب للخلافة أيضاً، وقد فشل في هذين المجالين، ويكفيه مع ذلك أنه حاول توحيد الخلافة كما كانت في عهد بني أميه ،وتتبلور هذه الفكرة في بناء المنصور لبغداد حتى أنها سميت بمدينة المنصور، وهي المدينة التي جمعت أنصار الدولة ودواوينها، وهي المدينة التي بلغت من العظمة والازدهار ما لم تبلغه أي مدينة أخرى في العالم الإسلامي ماعدا القاهرة .
ثم يأتي بعد المنصور سبعة من خلفاء العصر العباسي الأول ،هم المهدي، وأبناء الهادي ،والرشيد، ثم أبناء الرشيد الثلاثة (الأمين والمأمون والمعتصم) ثم الواثق .ويختلف هؤلاء السبعة عن الخليفتين الأولين في أنهم ورثوا دولة قد استقرت على نمط معلوم ،وأصبحت حياتها السياسية ميسرة ،وفي أنهم أحاطوا أنفسهم ببلاط عظيم وقصور فخمة وترف لا حد له ،حتى صار ترفهم أسطورة ترويها الأجيال، واختارت الأساطير شخصية منهم هي واسطة عقدهم وهي شخصية الرشيد .
أما المهدي فكان فوق لينِ أبي العباس السفاح ،وتحت حزم المنصور، وقد جاء بعد أن وطد له أبوه الأمور، فظهرت خاصة ميوله الشخصية وأولها حبه للصيد وخروجه إليه مع خاصته من رجال البلاط ،واهتمامه بالبلاط فقد اتخذت حاشية الخليفة لأول مرة شكل بلاط نشأ على يد المهدي في القسم الشرقي من بغداد، ثم بداية اهتمامه بالعقائد فإن المهدي هو الذي تتبع الزنادقة على نحو ما ذكرنا .
ولم يحكم الهادي غير سنة واحدة. ثم تولى- هارون الرشيد- وقد طالت خلافته على نحو ما طالت خلافة جده المنصور، وخلافة ابنه المأمون، وقد شغل هؤلاء الثلاثة (المنصور والرشيد والمأمون) نحو خمسة وستين سنة من العصر العباسي الأول، فهم لذلك عنوان عليه والرشيد في وسطهم كواسطة العقد .
وللرشيد شخصيته الأسطورية. فهو يمثل: شخصية ملك سعيد البرامكة يمثلون شخصية وزير نافذ الكلمة، وبينما كانت هذه الأساطير تتبلور في الأخيلة الشعبية كان الرشيد في الحقيقة يقوم بدور درع الدولة متنقلاً بين أرجاء دولته ،غازياً وحاجاً، وهو أول خليفة قاد الغزو بنفسه، وسار إلى الثائرين على رأس جيشه ،واسم الرشيد بعد ذلك كله مقترن باسم ايريني ،ونقفور ،وشارلمان. وهو من غير شك أعظم هؤلاء الملوك جميعاً، بل أعظم ملك في عصره على الإطلاق .
فولده الأول- الأمين -الخليفة المظلوم الذي ضاعت شخصيته الحقيقية ؛لما لحقه من هزيمة ،وهو على أية حال بطل عصبية الأبناء( وهي العصبية الفارسية من أبناء الجيش الخراساني الذي استقر بالعراق). وقد حارب جيوش أخيه- المأمون- من الخراسانية بجيوش بعضها من أبناء. وبعضها الآخر من العرب .
-والمأمون- شخصية عجيبة جامعة للمواقف المتناقضة التي يصعب التوفيق بينها؛ فهو يميل حيناً إلى الخراسانية ويعتمد عليهم، ثم يميل إلى العلويين ميلاً متطرفاً، حتى ليبذلون له ثقتهم وينسون خصوماتهم، حتى استطاع أن يتقرب الى- المغرب- ويكسب ثقته بعد أن كان يقصر مودته على الخراسانية في المشرق .
أما- المعتصم- فهو ثالث أولاد- الرشيد -الذين تعاقبوا أخاً بعد أخ على كرسي الخلافة ،وفي شخصية فارسٌ يحب أهل الفروسية، ولهذا مال إلى الترك وأحب فروسيتهم وخصهم بتقديره ،وبنى لهم عاصمة جديدة مفسحاً لهم أكبر مجال أنفسح لهم منذ اتصالهم بالدولة الى وقته .
والسمة الأخرى الواضحة في سمة- المعتصم- هي وفاءه لشخص أخيه بالذات في حياة أخيه وبعد مماته، ولهذا يعتبر حكمة استمراراً لحكم أخيه- المأمون -بحيث لو عاش- المأمون- لما اختلفت سياسته عن سياسة أخيه، برغم الاختلاف الملحوظ بين العصرين. مثال ذلك :أن –المأمون- هو الذي افتتح سياسة استخدام الأتراك ،وأن أخاه- المعتصم -هو الذي وصل بهذه السياسة الى أقصى مدى ممكن .
أما آخر خلفاء العصر العباسي الأول فهو: الخليفة –الواثق- وهو أقل خلفاء العصر من حيث وضوح الشخصية، وقد استطاع أن يحتفظ بمقام الخلافة الى جانب الأتراك، وأن يظل سيدهم الحاكم ،إلا أن مكانة الأتراك كانت قد استقرت، بحيث تحكم بعده في تولية المتوكل في سياسته ،فلما خرج عن طاعتهم قتلوه .
3)الدولة العباسية -6/1/2021
المراجع