نظرات ابن خلدون في ضوء اللسانيات البيولوجية
أ.د. صباح علي السليمان
هو علاقة اللغة بعلم الأحياء والأعصاب والرياضيات وعلم النفس،
أُطلقت عليه هذه التسمية من قبل ماسيمو بياتيللي بالماريني في الاجتماع الدولي في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا عام 1971،
ويعتقد أنَّه يرجع إلى أعمال نعوم تشومسكي وإيريك لينيبيرغ التي بدأت في خمسينيات القرن الماضي ردًا على النموذج السلوكي المهيمن حينها. وكان اللغوي الألماني أوغست شَيلور الرائد الذي مثّل علم اللغة الحيوي، إذ ناقش تطور اللغة اعتمادًا على نظرية التطور لداروين
(ويكيبيديا) .
ومن علماء العرب الذين تطرقوا إلى علاقة اللغة بنمو الإنسان العالم الجليل ابن خلدون – رحمه الله تعالى – فمن ذلك اكتساب وتعلم وسلوك اللغة تدريجيا ،
إذ يقول : “والملكات لا تحصل إلا بتكرار الأفعال لأنّ الفعل يقع أولاً وتعود منه للذات صفة، ثم تتكرر فتكون حالاً.
ومعنى الحال أنها صفة غير راسخة، ثم يزيد التكرار فتكون ملكة أي صفة راسخة “
1)مقدمة ابن خلدون 358 ،وينظر : منظور ابن خلدون في اكتساب اللغة العربية
2)د. مهند غازي ، ملامح نظريات التعلم عند ابن خلدون من خلال مقدمته /سورية قادر ، اسماعيل سيبوكر، مجلة الباحث في العلوم الإنسانية
فهي تأتي من مجتمعه ، وهذا يدلُّ على تأثر الإنسان بجلدته فيقول :” وأصله أنّ الإنسان ابن عوائده ومألوفه لا ابن طبيعته ومزاجه. فالذي ألفه في الأحوال حتى صار خلقاً وملكة وعادة تنزل منزلة الطبيعة والجبلة. واعتبر ذلك في الأدميين تجده كثيراً صحيحاً. والله يخلق ما يشاء”
3)مقدمة ابن خلدون 60 ، واسهامات ابن خلدون في رفد علم الاجتماع والأنثروبولوجيا بمفاهيم لغوية / أ.رائد محمد – جامعة القدس المفتوحة
ويرى ابن خلدون أنّ كل مكسب ايجابي يفيد العقل كما في قوله :
” فلهذا كانت الحنكة في التجربة تفيد عقلاً، والملكات الصناعية تفيد عقلاً،
والحضارة الكاملة تفيد عقلاً، لأنها مجتمعة من صنائع في شأن تدبير المنزل،
ومعاشرة أبناء الجنس، وتحصيل الآداب في مخالطتهم، ثم القيام بأمور الدين واعتبار آدابها وشرائطها. وهذه كلها قوانين تنتظم علوماً، فيحصل منها زيادة عقل.
4)مقدمة ابن خلدون 254
، وكذلك أضاف ابن خلدون أنّ الله تعالى سخر للكلام والفن أعضاء ؛ إذ يقول :
” وربما أفردوا بعض الأعضاء بالكلام وجعلوه علماً خاصاً، كالعين وعالمها وأكحالها.
وكذلك ألحقوا بالفن منافع الأعضاء ومعناه التي خلق لأجلها كل عضو من أعضاء البدن الحيواني. وإنْ لم يكن ذلك من موضوع علم الطب، إلا إنهم جعلوه من لواحقه وتوابعه.
5)مقدمة ابن خلدون 301
، فكلُّ منفعة لغوية أو غيرها أساسها جسم الإنسان ، وتحتاج إلى التعليم كما في قوله :
” فدل على أن هذه الملكة غير الفهم والوعي. والملكات كلها جسمانية، سواء كانت في البدن أو في الدماغ، من الفكر وغيره، كالحساب. والجسمانيات كلها محسوسة، فتفتقر إلى التعليم. ولهذا كان السند في التعليم في كل علم أو صناعة يفتقر إلى مشاهير المعلمين فيها معتبراً عند كل أهل أفق وجيل.
6)مقدمة ابن خلدون 246
كذلك تنبه ابن خلدون إلى علاقة فكر الإنسان بقياس ما حوله من تعلم ؛ إذ قال :
” فالمتكلم بلسان العرب والبليغ فيه يتحرى الهيئة المفيدة لذلك، على أساليب العرب وأنحاء مخاطباتهم، وينظم الكلام على ذلك الوجه جهده،
فإذا اتصلت معاناته لذلك بمخالطة كلام العرب، حصلت له الملكة في نظم الكلام على ذلك الوجه، وسهل عليه أمر التركيب،
حتى لا يكاد ينحو فيه غير منحى البلاغة التي للعرب، وإن سمع تركيباً غير جارى على ذلك المنحى
مجه ونبا عنه سمعه بأدنى فكر، بل وبغير فكر، إلا بما استفاده من حصول هذه الملكة. فإن الملكات إذا استقرت ورسخت في محالها ظهر كأنها طبيعة وجبلة لذلك المحل. “
7)مقدمة ابن خلدون 363
وعضو الحلق يؤدي بيانا ، وهذا من أسرار الله تعالى في خلقه ؛ إذ يقول ابن خلدون :
“وذلك البيان إنما يكون بالعبارة، وهي الكلام المركب من الألفاظ النطقية التي خلقها الله في عضو اللسان مركبة من الحروف،
وهي كيفيات الأصوات المقطعة بعضلة اللهاة واللسان ليتبين بها ضمائر المتكلمين
بعضهم لبعض في مخاطباتهم وهذه رتبة أولى في البيان عما في الضمائر،
وإنْ كان معظمها وأشرفها العلوم، فهي شاملة لكل ما يندرج في الضمير من خبر أو إنشاء على العموم.
8)مقدمة ابن خلدون 340
وتطرق ابن خلدون في أنَّ استمرار التعلم على حالة واحدة سيكون عادة بمرور الزمن ، فمن ذلك قوله :
” وذلك أنّ إرهاف الحد في التعليم مضمر بالمتعلم، سيما في أصاغر الولد؛ لأنّه من سوء الملكة.
ومن كان مرباه بالعسف والقهر من المتعلمين أو المماليك أو الخدم، سطا به القهر وضيق على النفس في انبساطها
وذهب بنشاطها ودعاه إلى الكسل وحمل على الكذب والخبث، وهو التظاهر بغير ما في ضميره
خوفاً من انبساط الأيدي بالقهر عليه، وعلمه المكر والخديعة لذلك، وصارت له هذه عادة وخلقاً
وفسدت معاني الإنسانية التي له من حيث الاجتماع والتمدن، وهي الحمية والمدافعة عن نفسه أو منزله.
[مقدمة ابن خلدون347] من هذا نستطيع أنْ ندرس علاقة علم الأحياء بتعلم اللغة
والتراث العربي فيه الكثير من الاشارات واللمسات لهذا العلم ، ونستطيع أنْ نؤسس مدرسة لسانية كذلك ،
معتمدين بذلك أيضا على التجارب اللسانية الغربية .
المراجع