الحضارة الأندلسية

الخِلافة الأُمويَّة خِلافة قُرطُبة

الخِلافة الأُمويَّة خِلافة قُرطُبة

الخِلافة الأُمويَّة خِلافة قُرطُبة

بويع الأمير عبدُ الرحمٰن بن مُحمَّد بالإمارة يوم الخميس في 1 ربيع الأوَّل 300هـ المُوافق فيه 16 تشرين الأوَّل (أكتوبر) 912م،

واضطلع مُنذُ اليوم الأوَّل الذي تولّى فيه الحُكم بإصلاح أحوال الأندلُس بعد أن تكاثرت فيها الثورات وتجمَّع حولها الأعداء، فأعلن من خِلال منشور عام التأكيد على التسامُح وإسقاط كافَّة الجرائم التي اقتُرفت بِحق الدولة في حال أعلن الثائرون الولاء للسُلطة المركزيَّة في قُرطُبة، كما توعَّد وأنذر باجتثاث معاقل الثائرين والعابثين بأمن البلاد والمُتحالفين مع القوى الأجنبيَّة ضدَّ الدولة.

 

لقي منشور الأمير استجابةً من بعض الثائرين، وتوالت اعترافاتهم بحُكمه، غير أنَّ فريقًا ظلَّ مُتجاهلًا نداءه، وهم جماعة عُمر بن حفصون، فاضطرَّ عبدُ الرحمٰن بن مُحمَّد إلى تجريد حملة عسكريَّة لِسحقه، ونجحت العمليَّات العسكريَّة في تطويع الأقاليم والحُصون الثائرة بِقيادة بني حفصون، كما تمكَّنت من استرداد بطليوس وببشتر وطُليطلة ومناطق الثغر الأعلى، التي كانت قد أصبحت شبه مُستقلَّة في عهد مُحمَّد بن عبد الرحمٰن وولديه المُنذر وعبد الله، وقامت فيها دُويلات بنو قُسي

 وبنو تجيب ومُحمَّد بن عبد الملك الطويل وعبد الرحمٰن بن مروان الجُليقي.

 بعد القضاء على الثورات الدَّاخليَّة، اتخذ عبدُ الرحمٰن بن مُحمَّد أكبر وأخطر قرار لهُ على مدى حياته السياسيَّة، لم يتجرَّأ أسلافه على اتخاذه، وهو تلقيب نفسه بِلقبين ساميين، الأوَّل لقبُ الخليفة، والثاني لقب أميرُ المُؤمنين، وأضاف إلى اسمه اللقب الشرفي: «النَّاصر لِدين الله

 وأمر بأن تتضمَّن خِطبة الجُمعة في المسجد الجامع ذلك.

 واستمرَّ هذا اللقب في عهده وعهد خُلفائه من بعده حتَّى انقرضت دولة الأُمويين سنة 422هـ المُوافقة لِسنة 1031م.

 

خرج عبدُ الرحمٰن النَّاصر بِعمله هذا عن الأصل النظري للمذهب السُنّي للخِلافة،

القائل بأنَّ الخِلافة كمُؤسسة دينيَّة ودُنيويَّة لا يُمكن أن تتجزَّأ حسب المفاهيم السَّائدة في ذلك الوقت، إلَّا أنه وضع هذا العمل في موضع الاجتهاد.

وأجاز الفُقهاء والعُلماء السُّنَّة بِتعدُّد الخِلافة في حال وُجود مصلحة عامَّة للمُسلمين،

واعترفوا بِشرعيَّة وُجود إمامين يتولَّيان حُكم المُسلمين في وقتٍ واحد، شرط أن تكون المسافة بينهما كبيرة حتَّى لا يحصل التصادم بينهما.

 ومن الأسباب الواقعيَّة التي دفعت عبد الرحمٰن النَّاصر إلى إعلان الخِلافة، كان ضُعف الدولة العبَّاسيَّة وانحدار سُمعتها إلى الحضيض

بحيثُ تحوَّلت إلى مطيَّة لِأطماع القادة التُرك المُهيمنين على مصائر الخُلفاء،

 

والذين أضحوا أصحاب الكلمة النافذة في الدَّولة غير عابئين بِالخِلافة بوصفها لقبًا لهُ حُرمته، ولا بالخليفة بوصفه صاحب سُلطة دينيَّة وزمنيَّة.

 كذلك فقد كان الإمام عُبيد الله المهدي الفاطمي قد بُويع بالإمامة في إفريقية وتلَّقب بأمير المُؤمنين

في سنة 297هـ المُوافقة لِسنة 910م، لِيُنافس عدُوَّه الرئيسي خليفة بغداد، ورُبما كانت هذه الحادثة أكثر إلحاحًا

من تراجُع نُفوذ الخِلافة العبَّاسيَّة في المشرق للإقدام على هذه الخُطوة من جانب عبد الرحمٰن النَّاصر

لا سيَّما وأنَّ الفاطميين كانوا قد أعلنوا الخِلافة على أساسٍ شيعيّ إسماعيليّ، وهو ما مثَّل تهديدًا عسكريًا ودينيًا للأُمويين بصفةٍ خاصَّة والأندلُس بصفةٍ عامَّة.

 وفي سبيل مُواجهة هذا الخطر حصّن النَّاصر الموانئ الجنوبيَّة للأندلُس

وضمَّ موانئ المغرب المُواجهة للأندلُس في مليلة وسبتة وطنجة، إضافة

إلى دعم البربر المُعادين للفاطميين في المغرب ماديًا وعسكريًا، وفي الوقت نفسه، استطاع عبد الرحمٰن النَّاصر التصدي لأطماع الممالك المسيحيَّة في الشمال.

 

وصلت الأندلُس إلى حالةٍ كبيرة من الاستقرار والأمن بعد السيطرة على التمرُّدات الداخليَّة

وبعد نجاح الحملات التي كانت تُرسل لِقتال الممالك المسيحيَّة في الشمال، والتي كانت تعود مُحمَّلة بالغنائم والأموال

كما تحسَّنت أحوال البلاد الزراعيَّة والصناعيَّة، حتَّى بلغت جباية الأندلُس من الكور والقُرى في عهد عبد الرحمٰن النَّاصر

خمسة ملايين وأربعمئة وثمانين ألف دينار، ومن ضريبة الأسواق سبعمئة وخمس وستين ألف دينار، بالإضافة إلى ما كان يدخل خزائن الدولة من أخماس الأغنام.

 

 كما بُنيت مدينة الزهراء شمالي غرب قُرطُبة بنحو خمسة أميال، لِتكون قاعدة ملكيَّة جديدة

بعدما ضجَّت قُرطُبة بساكنيها وازدحموا بها. وفي هذا العهد خطا المُسلمون

في بروڤانس خُطوةٌ أُخرى في سبيل التوغُّل في عُمق أوروبَّا. ففي سنة 318هـ المُوافقة لِسنة 930م غزوا ثغر فريجوس، وهو من أمنع ثُغور فرنسا الجنوبيَّة، كما غزوا ثغر طولون.

 

 وفي سنة 327هـ المُوافقة لِسنة 939م غزوا منطقة ڤاليه في جنوبي سويسرة،

واستقرّوا فيها، واتخذوا منها قاعدة لِغزو الأراضي المُجاورة في سويسرة وإيطاليا،

كما غزوا منطقة جزبرون في شرقي سويسرة، ووصلوا في توغُلهم إلى بُحيرة جنيڤ، وجاوزوا إلى مفاوز جورا الواقعة في شمالها

وسيطروا على ولاية ليگوريا في شمالي إيطاليا، وفتحوا آكام الألب وممرَّاتها،

ونفذوا إلى منطقة نيس واخترقوا قلب ولاية دوفينيه، وغزوا گرونوبل وسيطروا عليها مُدَّةً من الزمن، كما سيطروا على واديها الخصيب.

 تجاه هذا التوغُّل الإسلامي في عُمق الفارَّة الأوروبيَّة، نهض المُلوك والأُمراء والأباطرة الأوروبيّون

لِوقف المُسلمين عند حدِّهم ودفعهم إلى الجنوب، فتمكَّن هيو ملك إيطاليا بالتعاون

مع الإمبراطور البيزنطي رومانوس الأوَّل من هزيمة المُسلمين وإرغامهم على التراجع حتّى الآكام، وكاد يقضي على سُلطانهم في تلك الأنحاء لولا اضطراب الأوضاع الدَّاخليَّة في بلاده

فاضطرَّ أن يعقد صُلحًا مع المُسلمين مُقابل أن يتمركزوا في رؤوس الألب وممرَّاته ويُغلقوا الطُرق بوجه خُصومه

 وبذلك استعاد المُسلمون بعض قلاعهم وسيادتهم في جنوبي بروڤانس.

أمَّا في الشمال، فقد أنشأ المُسلمون في الأراضي التي سيطروا عليها سلسلةً

من القلاع القويَّة لِتكون مركزًا لِغزواتهم في لومبارديا وفي سويسرة، غير أنهم أُخرجوا من بعض الجهات في بيدمونت.

 

عرفت دولة الخِلافة الأندلُسيَّة أوجها الثقافي في عهد الحكم المُستنصر بالله الذي واصل سياسات أبيه عبد الرحمٰن النَّاصر، فكان عهده عهد ثقافة وعُمران.

 إلَّا أنَّهُ أخطأ حين اختار ابنه الوحيد الطفل هشام المُؤيَّد بالله لِولاية عهده،

فاستغل بعض رجال الدولة كالحاجب جعفر بن عُثمان المصحفي وصاحب الشُرطة مُحمَّد بن أبي عامر

 صغر سنِّه وعدم قُدرته على الحُكم في سنِّه الصغيرة، وفرضوا على الخلِافة وصاية أُم الخليفة صُبح البشكنجيَّة، واستأثروا هُم بكُل السُلطات.

 ثُمَّ انفرد مُحمَّد بن أبي عامر بكُل السُّلطات بعد أن تخلَّص من كُل شُركائه في الحُكم الواحد تلو الآخر،

 وحجر على الخليفة الطفل، لتبقى بذلك السُلطة الإسميَّة فقط للخليفة، والحُكم الفعلي لابن أبي عامر الذي تلقَّب بعد ذلك «بالحاجب المنصور

 استطاع الحاجب المنصور أن يؤسس دولة داخل الدولة حتى أن بعض المؤرخين سمَّاها الدولة العامريَّة

تميزت تلك الفترة بوجود تطور اجتماعي جديد بسيطرة البربر على المناصب القياديَّة في الجيش وكثرة عددهم واختفاء القيادة العربيَّة من الجيوش.

استمرَّت سيطرة العامريين على الحُكم طوال عهد الخليفة هشام المُؤيَّد بالله

حيثُ خلف الحاجب عبد الملك المُظفَّر بالله أباه المنصور سنة 392هـ

في كافة سُلطاته ومناصبه، ثُمَّ خلفه أخاه عبدُ الرحمٰن شنجول بعد وفاته سنة 399هـ

الذي لم يمض شهر على توليه الحجابة، حتى أجبر الخليفة على إعلانه ولاية العهد لشنجول.

 أثار ذلك حنق الأُمويين في الأندلُس بعد أن رأوا في ذلك اغتصابٌ لِحقِّهم في حُكم البلاد،

واستطاع أحد أُمرائهم ويُدعى مُحمَّد بن هشام أن يُدير انقلابًا في جمادى الأولى سنة 399هـ على حكم المُؤيِّد وشنجول، ويطيح بهما من سُدَّة الحُكم، ويعُلن نفسه الخليفة الجديد.

 حرص مُحمَّد بن هشام على التنكيل بالعامريين والبربر الذين كانوا عماد جيش الحاجب المنصور،

مما دعا الفتيان العامريين إلى الفرار إلى شرق الأندلُس، وتأسيس إمارة في تلك الأرجاء،

بينما التف البربر حول أميرٍ أُمويٍّ آخر يُدعى سُليمان بن الحكم الذي ثار على الخليفة، ونجح في اقتلاعه من منصبه وإعلان نفسه خليفة في ربيع الأول سنة 400هـ

 لِتدخل الأندلس فترة من القلاقل تصارع فيها الأمويين والبربر والحموديين على السُلطة.

وقد استمرت الفتنة حتى سنة 422هـ حيثُ سقطت الخِلافة في الأندلس نهائيًا، وتفتت الدولة إلى دُويلاتٍ صغيرة عُرفت تاريخيًا بِدُول الطوائف.

 

1)الاندلس

المراجع[+]

شارك المقالة:
السابق
الإمارة الأُمويَّة إمارة قُرطُبة
التالي
عهد مُلوك الطوائف في الأندلس