مقالات

الغفله عن الاخرة

كتابة : حسن عبدالمنعم البشبيشي 

الغفله عن الاخرة

كان أحد الناس يجلس على مكتبه داخل أحد المباني الكبيرة يؤدي عمله في هدوء، ثم فجأة دق جرس الإنذار، لكنه لم ينزعج وبقي هادئًا في مكانه جالسًا على مكتبه، رغم أنه كان يعلم أن جرس الإنذار يعني أن هناك حريق بالمبنى وأنه سوف يسقط ويوقن بذلك تمامًا، وأسرع الناس في المبنى يلوذون بالفرار وهم ينادون على هذا الرجل الجالس على مكتبه: احذر النار احذر النار! ألا تعلم أن هناك حريق كبير بالمبنى؟

فيقول لهم في برود أعلم ذلك، وبقي في هدوءه منشغلًا بأعماله، وظل الناس ينادون عليه حتى نبح صوتهم من كثرة النداء

لكن لا حياة لمن تنادي، فكأنما ينادون رجلًا لا عقل له أو ينادون أصمًا لا يسمع أو ينادون جمادًا من الجمادات أو ينادون رجلًا ميتًا ليس لديه أي إحساس أو عقل أو وعي،

إنه فعلًا ميت وليس بحي، وكما يقول الشاعر: لقد أسمعت إذ ناديت حيًا، ولكن لا حياة لمَنْ تنادي، فمهما أنذرته فلن يستجيب إلا إذا كان حيًا:

1)لِيُنْذِرَ مَنْ كَانَ حيًا وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكَافِرِينَ،

2)إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلَا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ

(إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ وَالْمَوْتَى يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ ثُمَّ إليه يُرْجَعُونَ).

ـ فهذا الرجل كان عليه أن يتصور خطورة الأمر فيشعر بالمهابة، ويخاف من الضرر إذا لحقته النار، ثم يسرع للهرب.

ـ فكذلك الذي يقول بأنه يوقن بالآخرة وبسقوط الدنيا وبأنه راحل إلى الآخرة ثم هو لا يتصور هذا الخطر ولا يخافه ولا يسرع بالاستعداد لذلك ويعيش في الدنيا هادئًا منشغلًا بأمور الدنيا التي سوف تسقط حالًا يسمع الموسيقى ويأكل الحلوى!

ـ إن الرسل جاءت لتنذر الناس بوجود الآخرة والجنة والنار، وهذا الإنذار أشد من الإنذار بوجود حريق أو خطر ما، ورغم ذلك هناك من لا ينزعج للأمر ولا يتصور خطورته ويدعي أنه يخاف الآخرة.

ـ معرفة الإنسان بأن هناك عالم آخر غير عالمنا الذي نعيش فيه مجهز ومعد لاستقبالنا حينما نصل إليه لابد أن تكون معرفة حقيقية، لكن مات المعنى لكلمة (الآخرة)، ولإحياء هذا المعنى يجب التعامل مع الآخرة كأن الإنسان يسمع عنها لأول مرة.

ـ الدنيا عبارة عن حجرة هادئة تمامًا وساكنة، وداخل هذه الحجرة يوجد رجل يلهو ويلعب وسط هذا الجو الهادئ، وخارج الحجرة توجد نار هائلة تقترب وتوشك أن تشتعل بالحجرة، والرسل جاءت تدق الباب بشدة وتنادي بصوت عالٍ: احذروا النار احذروا النار! وتنادي على من في الحجرة أن ينظر إلى الشباك ليرى النار، وتدله على ممر للنجاة وسط النار يؤدي إلى حدائق وقصور فيها الأمان والمتع والملذات (الجنة)، فسمع الرجل النداء ورأى النار من الشباك، ولكنه تجاهل الأمر وتغافل عنه كأنه لم يسمع النداء وكأنه لم يرَ النار من الشباك وكأنه لم يفهم ما قالته الرسل، واستمر في لعبه ولهوه وسط الجو الهادئ داخل الحجرة، ولم تتأثر مشاعره ولم يتحرك للهرب، فكأن هذا الرجل لا سمع له ولا بصر له ولا عقل له ولا مشاعر له وكأن جوارحه لا تعمل فكأنه ميت، فرغم أن هذا الرجل يلعب ويلهو لكنه في الحقيقة ميت! فمهما أخذت تنادي فيه: احذر النار! فكأنما تكلم ميتًا لا روح فيه:

3)إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلَا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ(111

فهذا الرجل كالأنعام يأكل ويشرب ويتناسل وينام، والبهائم لا تفقه خطاب البشر مهما ناديتها:

4)وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كثيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْأِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالأنعام بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ(112)،

فما زالت الرسل تدق الباب وتنادي وهو يستمع إليهم وهو يلعب مثلما يستمع إلى أمر تافه أو لا قيمة له:

5)اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ (1) مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إلا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ، لاهِيَةً قُلُوبُهُمْ.

ـ ويمكن تشبيه ذلك بأن الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جاء إلى الناس ليحذرهم من أن هناك خطر عظيم سوف يجتاحهم، هذا الخطر هو جيش جرار جاء ليقضي عليهم، فكان طائفة منهم لم يتأثروا ولم ينتبهوا لخطورة الأمر ولم يشعروا بالخوف والرعب، ومن أثر ذلك أنهم لم يتحركوا من مكانهم ولم يهربوا، وكأن شيئًا لم يكن، وكأنهم لم يسمعوا، وكأنهم كالحائط الذي لا يحس، وبقوا مكانهم منشغلين بحياتهم وطعامهم وشرابهم، فهؤلاء جاء الجيش إليهم فقضى عليهم، وطائفة أخرى تحركت مشاعرهم وشعروا بالخوف ولاذوا بالفرار فنجو من الجيش، وهذا المثل هو ما أوضحه الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ففي الحديث:

6)إنما مَثَلي ومثل ما بعثني الله به كمثل رجل أتى قومًا فقال يا قوم إني رأيت الجيش بعيني وإني أنا النذير العريان فالنجاء النجاء، فأطاعه طائفة من قومه فأدلجوا فانطلقوا على مهلهم فنجوا، وكذبت طائفة منهم فأصبحوا مكانهم فصبحهم الجيش فأهلكهم واجتاحهم،

فذلك مثل من أطاعني فاتبع ما جئت به ومثل من عصاني وكذب بما جئت به من الحق
،

ومعنى (النذير العريان) أن الرجل إِذا كَانَ على مَكَان عَال فَبَصر بالعدو نزع ثَوْبه فألاح بِهِ لينذر القوم، فَيبقى عُريَانا،

وعري النذير أبلغ فِي الْإِنْذَار؛ لِأَن القوم إِذا رَأَوْهُ عُريَانًا علمُوا أَن الأمر عَظِيم، وقيل معناه أنَا النَّذِير الَّذِي أَدْرَكَنِي جَيْشُ الْعَدُوّ، فَأَخَذَ ثِيَابِي،

فانفلت منهم، فَأَنَا أُنْذِركُمْ عُرْيَانًا، وفي حديث آخر:

7)مثلي كمثل رجل استوقد نارًا فلما أضاءت ما حولها جعل الفراش وهذه الدواب التي يقعن في النار يقعن فيها وجعل يحجزهن

ويغلبنه فيقتحمن فيها، فذلك مثلي ومثلكم أنا آخذ بحجزكم عن النار هلم عن النار هلم عن النار فتغلبوني فتقتحمون فيها

 

المراجع[+]

شارك المقالة:
السابق
تعرف على القوائم المالية وأنواعها
التالي
الهروب من الاخرة